رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

كرة الثلج المسمومة فى طريقها للنيل من الطفولة

يعتقد البشر في أن كل أمر يمكن الشك فيه، وأن المسلمات في الحياة الإنسانية قليلة، وما يبدو حقيقة اليوم، هو في الغد يطرق كل الاحتمالات ويتشكل على كافة الآراء، ومن تلك الأمور التي تجمع عليها الأغلبية الساحقة للبشر، هو أن صغار الإنسانية وحمايتهم، ورعايتهم وإبعاد الأذى عنهم أمر لا يحمل احتمالين مهما اختلفت أفكارنا، وهويتنا، وعقائدنا.


ورغم أن الأطفال قد طالهم الكثير من الانتهاكات على مدار التاريخ الإنساني بأشكال مختلفة، فقد عانوا في الحروب والمعارك، وتعرضوا للاحتجاز والاتجار، والعبودية، وأجبروا على العمل الضار، وعايشوا حلقات من العنف والاعتداءات الجنسية مرارًا  وتكرارًا.


ومع ذلك كانت تلك التصرفات والانتهاكات تجاه الطفولة هي دومًا نهج القلة المسمومة إنسانيًا، وكان يمقتها السواد الأعظم، مهما كان المبرر لوجودها، كان دومًا الرفض مبدأ، ولا لمس صغارنا شعار تتبناه البشرية على الدوام، معتقدين أن ذلك أمر ثابت وحقيقة لا رجع فيها أبدًا ، فكل أمر يمكن الجدال حوله إلا حماية صغارنا وإبعادهم عن ساحة الانتهاكات فهو أمر لا نقاش فيه، وكل من يخالف ذلك هو مرتد عن ناموس الإنسانية جمعاء.


صرنا على هذا الدرب دومًا، وسعت المجتمعات كافة لحماية أطفالها بكل الطرق الشرعية، وتمكن المجتمع الدولي من عقد اتفاقية ومن ثم ميثاق لحقوق الطفل، وانبثق منها عدد من الاتفاقيات الدولية والإقليمية في كل بقعة جغرافية باختلاف الثقافات والمناهج، بحيث أصبحت مواثيق الطفل من أكثر المواثيق قبولًا وتوقيعًا لغالبية الدول نظرًا لمنطقية ما ذكرناه سالفًا، بأن الجميع يقر على أن حماية الأطفال واجب وأمر حتمي، ولا يقبل التهاون.


ومن ثم ظهر الكثير من الجهات المؤمنة بانتشال الطفولة من الانتهاكات التي تواجهها في كل مجتمع على حدة، واتجهت المؤسسات والكيانات التي تتفاعل مع الطفل بشكل مباشر بإطلاق السياسات الخاصة بحمايته، ومراعاة خصوصيته في كل مجال عام وخاص، وسيبراني لتوفير بيئات أكثر أمانًا وحماية للأطفال.


وعلى ذكر ما سبق فإن أي فعل أو تصريح به انتهاك للطفولة، كانت تهتز له كل الأبواق ولا تسكن حتى يردع كل جائر على براءتنا ومساحة طهارتنا الإنسانية الراسخة فينا، وظل منتهكو الطفولة يسكنون كهوفهم متوارين عن الأنظار، لا يسمع لهم صوت، لا يستطيعون ممارسة أفكارهم الخبيثة تجاه صغارنا إلا خلسة وإن كشف أمرهم رجموا قولًا وفعلًا.


حتى فوجئنا بهم من فترة ليست ببعيدة يشكلون جبهات معًا، يشاركون فيها بذاءة الأفكار، والرغبات تجاه الطفولة بشفرات كودية وأرقام وأسماء مستترة، لا يفهمها سواهم في رسائلهم معًا، وهي بمثابة طريقة خفية لطلب وممارسة انتهاكاتهم تجاه الأطفال في السر وبعيدًا عن أعين ووعي الجميع.


ثم ببساطة ودون سابق إنذار قرروا أن يعلنوا عن وجودهم، ويذرفون دموع التماسيح للمجتمع الدولي، مستخدمين في ذلك أساليب مختلفة ومحترفة في الوقت ذاته، ليثبتوا شَيْئًا لا يقنع بعوضة على سطح الأرض وليس فردًا كامل الأهلية بطاقة إنسانية، سليمة وعقل غير ملوث، فما بين صيحاتهم بالعلم والبحث مرات، وما بين مطالبات حقوقية لإنسانيتهم ما أنزل الله بها من سلطان وكأنهم يتوارون بكلام حق يراد به باطل بل وضلال فج مرات أخرى، والأمر المدهش أنهم اعتلوا منصات مشهورة تربعت على عرش الإلهام لسنوات، يتحدثون ويعبرون عن أنفسهم خلالها بترحاب وقبول، وكأن الإنسانية في طريقها لطي صفحتها للأبد بلا هوادة.


مع كل حديث لهم ينتفض العالم الإنساني، والحقوقي معلنًا عن رفضه لهذه الهراءات، ولكنه يسكن مرة أخرى ويتجاهل لأنه لا يملك سوى يقين واحد أنهم قلة غير سوية تنبح من حين لآخر، ولن يسمعها أحد ولن يستميل لفوضى حديثهم عاقل أو صاحب لُب وبيان.


حتى انطلق السهم الفج الذي لم يتوقعه أحد. قد تحركت رءوس المال العالمية، والشركات صاحبة الأسماء الأضخم ماليًا، وحدثت الشراكات والمواءمات من أجل الخروج بحملات فجة تدعي حملات ترويجية أو دعائية، لا يهمنا الاسم ولكن يعنينا بصدق ما تحمله تلك الحملات من معانٍ فجة، ورسائل صريحة لا تحتمل الشك، أو الظن في معناها ومقصدها.


شركات من أضخم الأسماء فى بيوت الموضة قررت تبني أفكار فى حملاتها تنتهك الأطفال، وتروج لسفك براءتهم دون حياء أو خوف أو حتى محاولة مواراة، والإيجابي فى الأمر هو انتفاض الجميع نحو تلك الحملات فى كل البقاع دون فرق بين ثقافة وأخرى، فتراجعت تلك الشركات عن حملتها بل والتنكر منها، ومن معناها وإلصاق الفكرة للشركات المنفذة للدعاية خوفًا من الغرق التجاري حاليًا.


وعلى الصعيد الآخر فإنها كشفت عن وجه بذيء ومستتر للكثير من العاملين في شركات كتلك وكذلك بالدعاية والإعلان، فلا نعلم عن كثير الحملات التي وجهت لنا ولأبنائنا دست السم بالعسل على أيديهم في السابق تمهيدًا لانتهاكات فجة دون أن ندري بذلك، كما كشفت أيضًا عن أفكار، ورؤى غير منطقية لكثير من المشاهير عالميًا، وتقبلهم لذلك النوع من الأفكار والسلوك وأنه أمر موجود، وسيقبل اليوم أو غدًا وتجاه أطفال الإنسانية، الشيء النقي المتبقي فينا.


وأكثر ما أخشاه هو أن تمر هذه الفترة كسابقها من اعتراضات ومقاطعات، فنتجاهل مرة أخرى ما يتم إظهاره رُوَيْدًا رُوَيْدًا لظننا أن موقفنا تجاه تلك الأفكار، والممارسات بيّن ولا يحتاج لمزيد من المحاولات، وأن تلك الصفحة قد طويت وقضى الأمر، فيتسللون مرة أخرى لوجداننا، وعقولنا بطرق أكثر خبث وتضليلًا، بل ومن الممكن أن تكون طرقًا ذات قابلية لدينا وترويج، حتى يدفعونا أن نرحب، ونشارك دعايتهم المضللة بذات أنفسنا دون أن ندري.


أخشى أن نتعامل مع الأمر بحسن نية، ومنطقية إنسانية فنصحو ذات يوم على فاجعة كبرى، وتكاتف ضخم لتمرير وتبرير تلك الانتهاكات نحو الأطفال بدواعٍ أكثر حبكة، وبرغبة وترحيب من أجيال تلاعبوا بعقولها ووعيها لسنوات دون أن نلاحظ حتى، ونحن عشنا نظن أننا لم يرف لنا جفن عن صغارنا وعن حمايتهم.


وفي اعتقادي أننا نعاصر اليوم جزءًا متقدمًا من مرحلة التمهيد والحضانة ولن تتوقف عملية التشكيل والتنشئة بها، حتى وإن سلكت طرقًا متعرجة الآن، حتى يتمكنوا من الخروج بحملات أكثر شراسة وقوة حينما يشعرون أن الوقت قد حان لذلك، وأن أفكارهم ستمر حتى لو قبلت بالاستهجان في البداية.


وهذا يدفعنا في أن نكون متيقظين من الآن ونسبق بخطوة نشاهد كل شيء بعين ناقد، نتعلم التحليل الإعلامي أن لزم، ونفتح الحديث عن كل شائك، وكل متوقع من الآن، نمهد نحن قبل أن نصحو على كارثة ليس لنا عليها من سلطان، فيجب أن نكون على يقين أننا بحاجة لمساحات أكثر وعياً من التوسط الأبوي النشط والإيجابي، وسياسات لتعليم واع للقضايا والأفكار، وحاضن للتفكير والتحليل والنقد، وأن تخلق مساحات حرة للتواجد الشبابي خارج الساحات السيبرالية لتدعمهم باستنارة حقوقية متعمقة من الآن دون خوف أو حرج، وأن يكون لدينا منصات بمحتوى ترفيهي بديل لصغارنا بمفاهيم تلقي الضوء لا تجنبه، وأن نستعد بتشريعات أكر قوة لردع هذا الأمر، فإما أن نعد العدة ونتيقظ من الآن أو نتوقع أن تمحيناغفوتنا العميقة إلى الأبد.