رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

آنخيل دى ماريا.. «هرقل» صانع الفحم بين الحياة والموت

آنخيل دي ماريا
آنخيل دي ماريا

«الحصول على حذاء لكرة القدم في طفولتي كان يعني أن شقيقتي لن تحظيا بأحذية». 

«بكل صراحة، أرغب في المشاركة بكأس العالم، قد تكون المشاركة الأخيرة لي، أتمنى من أعماق قلبي أن أنضم وأحقق اللقب».


تصريحان خرجا من رجل واحد، عاش طفولة قاسية وعانى الأمرين؛ لكنه شارك في كتابة مجد بلاده وخلّد اسمه في تاريخها للأبد، هو آنخيل دي ماريا، نجم الأرجنتين والمتوج بمونديال قطر 2022، والتصريح الأول عبر به عن حياته الأولى، والثاني عن مشاركته الأخيرة في المونديال.

آنخيل دي ماريا، من مواليد 14 فبراير 1988 في مدينة روساريو الأرجنتينية، وهي نفس المدينة التي ولد بها الأسطورة ليونيل ميسي، وبدأ كلاهما مسيرته بكرة القدم لغريمين بروساريو، وانتقلا أيضًا لغريمين بإسبانيا قبل أن يحققا سويًا مجد أرجنتينا.

آنخيل ولد لأسرة فقيرة مكونة من الأب ميجيل دي ماريا، والأم ديانا هيرنانديز، وشقيقتين هما: "فانيسا، وإيفيلين".


الحياة الأولى بين فرط الحركة والكاراتيه


في سنوات طفولته الأولى، عانى آنخيل دي ماريا من مرض اضطراب فرط الحركة، وهو حالة مزمنة تصيب ملايين الأطفال، وغالبًا ما تستمرُّ في مرحلة البلوغ؛ ويتضمَّن اضطراب نقص الانتباه مع فرط النشاط مجموعة من المشكلات المستمرة، مثل صعوبة الحفاظ على الانتباه، وفرط النشاط، والسلوك الاندفاعي.

 

«عندما كنت طفلًا لم أكن أستريح، كان لدي فرط حركة، والطبيب نصح والدتي بتوجيهي لأداء رياضة لتهدئة حركتي، وبدلًا من الكاراتيه فضلنا كرة القدم»، دي ماريا عن مرضه.

 

وقاد اضطراب فرط الحركة آنخيل دي ماريا لمداعبة كرة القدم، كطفل صغير في شوارع بلدته وأحد الأندية المحلية الصغيرة.


ويحكي دي ماريا في مقاله لموقع "The players tribune": «كنت مهووسًا بكرة القدم، أتذكر أنني كنت ألعب كثيرًا لدرجة أن حذائي كان يتفكك كل شهرين، والدتي كانت تلصقه باستخدام مادة "بوكسل رن" لأنه لم يكن لدينا المال لشراء حذاء جديد؛ عندما كنت في السابعة من عمري، سجلت 64 هدفًا لفريق الحي الذي أعيش فيه، ودخلت والدتي إلى غرفتي وقالت: تريد المحطة الإذاعية التحدث إليك، ذهبنا للمحطة وكنت خجولًا جدًا لدرجة أنني كنت بالكاد أستطيع التحدث».


روساريو سنترال.. الحياة والموت

التحق آنخيل دي ماريا بنادي روساريو سنترال في عام 1995، وهو في السابعة من عمره، بعدما لاحظه أحد كشافة النادي وهو يلعب لنادٍ محلي، وتمت عملية انتقاله مقابل 30 كرة قدم، ثم تم تصعيده لأكاديمية شباب الفريق في 2005.

وفي نفس العام الذي سجل فيه دي ماريا 64 هدفًا، تلقى والده مكالمة هاتفية من نادي روساريو سنترال يبدون رغبتهم في ضمه، المفارقة هنا أن والده كان من مشجعي نادي نيو أولد بويز، الذي لعب له ميسي في بدايته، ووالدته كانت مشجعة لسنترال.

ناديا روساريو سنترال ونيو أولد بويز هما الأكثر شعبية في مدينة روساريو، ومباراتهما تتسم بالحماس والقوة والتنافسية.

«إذا لم تكن من روساريو، فلا يمكنك فهم مدى حماسة التنافسة، إنه مثل الحياة والموت، عندما كان يلعب الكلاسيكو بينهما، كان أبي وأمي يصرخان بأعلى صوتهما مع كل هدف، والفائز سيسخر من الخاسر لمدة شهر حول تلك المباراة»، دي ماريا.

 

العائلة تستحق دائمًا كل شيء

«عندما كنت رضيعًا كانت الأمور تسير على ما يرام مع والدي، ولكن أبي قرر فعل شيء جيد لأحد أصدقائه وحول حياتنا بأكملها»، دي ماريا.



والد آنخيل دي ماريا وقع على أوراق ضمانة أحد أصدقائه، وانتهى الأمر بتخلف الرجل عن دفع مديونيته، ثم اختفى؛ وتوجب على والد دي ماريا أن يدفع ثمن منزلين للبنك ويطعم أسرته.

 

اضطر والد دي ماريا للعمل في الفحم من أجل توفير طعام أسرته وسداد الديون التي ترتبت عليه.

ففي بداية الأمر حول الغرفة الأمامية لمنزلهم إلى متجر صغير، وكان يشتري مواد التبييض والكلور ثم يقسمها إلى زجاجات صغيرة ويبيعها لأهالي المدينة.

 

«إذا كنت تعيش في بلدتنا، فأنت لا تذهب للمتجر لشراء مواد التبييض كان ذلك مكلفًا للغاية، كانوا يأتون إلى منزلنا وتبيع لهم أمي زجاجة بسعر أفضل بكثير».

 

وفي أحد الأيام كانت والدة دي ماريا تؤدي عملها في المتجر، وقرر الطفل الصغير أن ينطلق من البوابة الأمامية للمنزل بمشايته لاكتشاف ما حوله.

انطلق إلى منتصف الشارع وركضت خلفه والدته لإنقاذه من الاصطدام بسيارة، وكان ذلك اليوم الأخير لمتجر منظفات دي ماريا.

وانتقل والده للعمل في الفحم، عن طريق تصنيعه في الساحة الخلفية لمنزلهم وتقطيعه لبيعه في السوق.

وأقنع ميجيل دي ماريا، الرجل الذي يجلب شاحنات الفحم من سانتياجو ديل إستيرو بتأجيل دفع مقابل الشحنات الأولى لعدم امتلاك أسرته للمال.

«حوائط منزلنا كان من المفترض أنها بيضاء، ولكنني لم أرها كذلك أبدًا في البداية كانت رمادية ثم تحولت إلى اللون الأسود بسبب رماد الفحم».

 

بعد انضمامه إلى روساريو سنترال، كانت والدة دي ماريا تصطحبه إلى التدريبات يوميًا بدراجة قديمة صدئة وصفراء اللون، كما يصفها دي ماريا، وكان يجب أن تصطحب أخته الصغيرة معه أيضًا، فصنع والده منصة خشبية صغيرة وربطها إلى جانب الدراجة لتجلس فيها شقيقته.

والد دي ماريا ووالدته عانا الأمرين من أجل تربيته هو وشقيقتيه في ظل الديون المتراكمة عليهما، والتزاماتهما الأسرية والتجارية.

 


«عندما كنا نطلب الحلوى من أبي كان يقول: "أنا أنفق على منزلين وأطعم أسرتي"» دي ماريا.

دي ماريا في طفولته

عليك إثبات نفسك آنخيل

 

عندما كان في الخامسة عشرة من عمره، كان دي ماريا على وشك الاعتزال، بسبب هجوم مدربه عليه، ولكن والدته فقط من أثابته عن هذا القرار.

 

«كان لدي مدرب مجنون بعض الشيء، كان يفضل اللاعبين العدوانيين ولم أكن كذلك؛ في يوم لم أقفز لتسديد رأسية في منطقة الجزاء، وفي نهاية التدريب قال لي: "أنت وصمة عار، لن تصل إلى أي شيء وستكون فاشلًا، لقد كنت محطمًا، وانهمرت في البكاء وركضت من الملعب قبل أن ينهي كلماته».

 

في تلك اللحظة قرر آنخيل التوقف عن لعب كرة القدم، وذهب إلى منزله وانهمر في البكاء داخل غرفته، وعندما سألته والدته عن سبب بكائه قال إنه تشاجر مع أحد زملائه ولكنها أيقنت أنه يكذب.

وفي اليوم التالي لم يذهب آنخيل للمدرسة، ورفض الخروج من غرفته.

 

«والدتي جاءت إلي وقالت لي: "ستعود آنخيل، ستعود اليوم، عليك أن تثبت نفسك له"».

 

زملاء آنخيل في ذلك اليوم ساعدوه على تحسين حالته النفسية، لم يسخروا منه بل ساعدوه في الفوز بالثنائيات الهوائية.

في عامه السادس عشر، كان دي ماريا على وشك اتخاذ قرار حاسم في مسيرته، بعدما منحه والده 3 خيارات، إما أن يذهب للعمل معه، أو يكمل دراسته، أو يخوض عامًا آخر في كرة القدم وإن لم يفلح يذهب للعمل معه.

واختارت والدته أن يكمل عامًا آخر في كرة القدم، وتلك الجلسة كانت في شهر يناير، وقبل أن ينتهي العام شارك دي ماريا في مباراته الأولى، مع الفريق الأول لروساريو.

والدة دي ماريا

بنفيكا وريال مدريد وذهبية الأوليمبياد.. سأرد الجميل لعائلتي

انتقل آنخيل دي ماريا من فريق روساريو سنترال إلى بنفيكا في صيف 2007، وهو في الـ22 من عمره، ليبدأ أولى خطواته الاحترافية.

أول شيء فعله دي ماريا بعد انتقاله لبنفيكا هو شراء منزل جديد لأسرته، لتعويضهم عما عانوه من قبل.

واستطاع دي ماريا المساهمة في تتويج الأرجنتين بالميدالية الذهبية لدورة الألعاب الأولمبية، بكين 2008، رفقة ليونيل ميسي، نجم برشلونة الشاب آنذاك.

دي ماريا مرتديًا الميدالية الذهبية لأوليمبياد 2008

وانتقل دي ماريا إلى ريال مدريد في 2010 بعد انتهاء مشاركته في مونديال جنوب إفريقيا.

وساهم دي ماريا في تتويج ريال مدريد بالدوري الإسباني في موسم 2011-2012، بالإضافة إلى دوري أبطال أوروبا 2014.

مونديال 2014.. لا أهتم بريال مدريد 

صباح نهائي كأس العالم 2014، تلقى المنتخب الأرجنتيني خطابًا من ريال مدريد يطلب من الجهاز الفني ألا يشرك دي ماريا لأنه ليس في حالة طبية لائقة.

طبيب الفريق جاء إلى الغرفة التي كان ينتظره بها دي ماريا لإعطائه الحقنة المسكنة للمشاركة في المباراة، ومنحه الخطاب الموجه من ريال مدريد، وأخذها منه دي ماريا ومزقها إلى قطع وقال له ألق بها بعيدًا، أنا من يقرر هنا.


لكن المدير الفني لمنتخب الأرجنتين وقتها، رفض الدفع بدي ماريا، الذي ذهب له باكيًا وطالبه بالسماح له بالمشاركة في المباراة.

 

«أريد فقط الفوز بكأس العالم، إذا اتصلت بي سألعب حتى تنكسر قدمي»، دي ماريا قبل نهائي 2014.

 

دي ماريا - مونديال 2014


أبطال العالم.. لتحيا والدة دي ماريا

 

«لم يسمحوا لي أبدًا بالاستسلام، كانوا دائمًا هناك يدعمونني، شكرًا جزيلًا لكم لكونكم بجانبي دائمًا، أحبكم من كل قلبي، أبطال العالم».

 

هكذا عبر آنخيل دي ماريا عن امتنانه لعائلته بعد تتويج الأرجنتين ببطولة كأس العالم، قطر 2022، على حساب منتخب فرنسا في المباراة النهائية.

وتسبب دي ماريا في احتساب ركلة جزاء للأرجنتين، سجلها ليونيل ميسي، كما سجل الهدف الثاني في المباراة التي انتهت بالتعادل بثلاثة أهداف لكل فريق، قبل أن يخرج من الملعب، وينهمر بالبكاء حتى نهاية المباراة وإعلان الأرجنتين بطلًا للعالم.

 

«ربما الناس ينظرون إلى معيشتي ولا يعرفون الرحلة، لكنهم لم يروا صعوبة معاركنا للوصول إلى تلك اللحظة، لا يعرفون شيئًا عن تحول جدران غرفة معيشتنا للون الأسود، أو عمل والدي تحت سقف من الصفيح، ولا ركوب والدتي الدراجة خلال المطر والبرد من أجل أطفالها، لا يعرفون شيئًا عن هرقل»، دي ماريا مختتمًا مقاله.