رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«البدايات والنهايات» والبحث عن المجهول فى عالم نجيب محفوظ

جريدة الدستور

 

فى حياة كل كاتب هناك نسيج من الشخصيات والظروف والأحداث التى اجتمعت لتشكل ما هو عليه كأديب ومبدع ومفكر، وبالنسبة لنجيب محفوظ كانت الطفولة هى المرحلة الأهم فى صنع شخصيته، الطفولة هى التى شكلت البدايات، واستعان بها فى النهايات بعدما خانته مخيلته وجسده فى مجاراة الواقع فاستعان بالطفولة واستند إلى الذاكرة فى كتابة روايات ما بعد نوبل أو روايات فترة الشيخوخة.

بدايةً، فى كتابه «البدايات والنهايات أعوام نجيب محفوظ» الصادر عن دار «الشروق»، يعود بنا الكاتب محمد شعير إلى فترة حرجة فى تاريخ مصر، حيث السنوات الفاصلة بين «الثورة العرابية» و«ثورة ١٩١٩»، ليتتبع التغيرات الاجتماعية والثقافية التى حدثت فى تلك الفترة. فترة تحمل الكثير من آمال الشعب البائس، المتعطش للحرية والانتصار على الاحتلال بعد مقاومات تُوجت بالفشل وزادت الشعب المزيد من الأعباء والألم.

ورغم قتامة هذه الفترة فقد اندفعت مصر تحت تأثير الحداثة فى ظل تطور التعليم وانتشاره، وأصبحت الرواية فى تلك الفترة شيئًا جديدًا على المصريين، فقد استقبلها القارئ المصرى بولع شديد، وفى تلك الفترة يُولد نجيب محفوظ. 

يتتبع محمد شعير حياة نجيب محفوظ وخاصةً الطفولة فهى التى شكلت وجدانه، وهى المادة الخام التى صنع منها أبطال رواياته. فكان مولعًا بالحكايات منذ نعومة أظافره، كثير السؤال. طفل يحمل داخل جسده خيال العالم، شغوف بسماع القصص الحقيقى منها والخيالى، المخيف منها والطفولى الحالم، قصص أبطالها ملائكة وأحيانًا شياطين. لكن الرابط بين كل القصص هو الخيال اللازم لمشروع أديب. 

كان يتلذذ بسماع الحكايات من أمه وإخوته «فكان ينصت بكل جوارحه، ويلهو عن كل شىء فى السماء والأرض، لأن الحكاية كانت أفيونته»، فهى التى قادته إلى حب الأدب رغم تفوقه فى الرياضيات.

وفى المرحلة الثانوية يقرأ «الأيام» للكاتب طه حسين، فكانت «الأيام» واحدة من الأعمال التى قادت محفوظ إلى الكتابة عندما بدأ فيها، وأيضًا واحدة من الأعمال القليلة المختارة التى حسمت موقفه بالإخلاص للأدب وحده، فكتب «الأعوام» كتدريب على الكتابة، حيث تكمن فرادة «الأعوام» فى كونها النص الوحيد الذى كتبه محفوظ قاصدًا أن يكون سيرة ذاتية، تحمل الطابع الاعترافى، ومن هنا أصبحت الكتابة حياته وأصبحت تعبيره الخاص عن الحياة والوجود والأشياء. 

«مغادرة رغبة الكتابة هى يوم موتى».. هكذا كان نجيب محفوظ يتحدث دائمًا رغم عدم تعرضه للنقد ولا لأى وسيلة من وسائل الاحتفاء حتى وقت متأخر بعد كتابته للثلاثية، ليصف العميد «طه حسين» رواية «بين القصرين» بأنها «قصة عالمية، تثبت للموازنة مع ما شئت من كتاب القصص العالمية فى أى لغة من اللغات التى يقرأها الناس».

التغيير سنة كونية فى كتابات محفوظ، فكانت وقائع هذه الفترة هى التى دفعت محفوظ إلى التغيير فى كتابته. وللتاريخ نصيب واسع من كتاباته أيضًا، فقد وجدت الأحداث التاريخية متنفسًا من خلال أعماله الروائية التى دائمًا ما يبدأها بثورة ١٩١٩. وقام بتوظيف اللغة لتعبر أكثر عن شخصيات رواياته. هذا ما كان يفعله دائمًا. «الشخصيات لديه أشبه بعجينة يشكلها كيفما يشاء، ويحييها ويميتها أيضًا متى شاء» فكان فى صراع دائم ومستمر مع شخصياته ولغته، حيث ارتقت لغته لتناسب الزمان والمكان الذى يعيش فيه أبطال رواياته. وظلت لغته فى تصاعد حتى أصداء السيرة الذاتية حيث كانت كلماته غير صريحة لكنها معبرة، تحمل روحه وفلسفته وطفولته والأماكن التى تواجد بها.

فللمكان رمزية فى أعماله، فهو كناية عن صمود التاريخ وأن التجربة الإنسانية لا بد لها من شاهد، وظهر ذلك فى تمسكه بالكتابة عن الحارة المصرية التى هى سرة أعماله ومسرحها. فهو يكتب عن الإنسان، ومن وإلى الإنسان. فكانت الحارة المصرية هى النظرية التى برع نجيب محفوظ فى وصفها وشرحها واستحق عليها جائزة نوبل.

وقد قال محفوظ بعد حصوله على جائزة نوبل : «أعتقد أن الطفولة مخزن لكل أديب؛ لأنها الفترة التى يتلقى فيها الحياة بتلقائية كاملة، وليس من خلال نظرية ولا فلسفة ولا أى شىء آخر وتختلط فى وجدانه ويعود الأديب إلى فكرتها وإيقاعها».