رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

تلك الليلة

زيزيت سالم
زيزيت سالم

لا أدرى كم مرَّ علىّ من الوقت، أجثو على ركبتى وأنبش الرمال بكلتا يدىّ حتى تقصفت أظافرى، أتناوب بين نبش الرمال وإدارة كونتاكت السيارة التى انغرست أمام المقبرة المفتوحة، أنبش الرمال تحت العجلات بطريقة هيستيرية بعد أن أدركت أننى فقدت السيطرة وأننى عاجزة تمامًا عن إنقاذ نفسى وأن كل شىء يخذلنى ويتكاتف من أجل انهيارى.

كل مرة أتعهد أمام نفسى بعدم الانسياق وراء عنادى فأعجز عن تحقيق ذلك لأجنى فى النهاية عواقب وخيمة، وها هو النهار أوشك على الأفول وأنا وحدى فى المقابر. 

كنت أخطط منذ بداية يومى أن أصحو باكرًا وأذهب لزيارة أبى حيث افتقدته ونادانى الحنين إليه، ارتديت ملابسى بينما أرتشف كوب الشاى الساخن، جهزتُ حقيبتى ثم اتجهت إلى المطبخ لأغسل الكوب فى الحوض، فإذا بكوع الحوض يسقط فجأة دون مبرر وتتسرب المياه على أرضية المطبخ، أسرعت إلى المحبس فأغلقته وهاتفت السباك ورجوته ألا يتأخر، أشارت الساعة إلى الثانية عشرة ظهرًا حين أتى السباك وانتهى من عمله فى الواحدة ظهرًا، خرجت من الشقة ووضعت أشيائى فى السيارة لأجد إطار العجلة الأمامية فارغًا، ناديت على البواب فحضر مع ابنه وقاما بتغيير الإطار بالعجلة الاحتياطية، أخذتُ أراود نفسى عن زيارة أبى وتأجيلها إلى الغد، حيث مسافة الطريق بين مسكنى فى التجمع الخامس وبين مقابر الأسرة فى طريق الواحات البحرية لا يقل عن ثلاث ساعات، لأننى سأمر بالطبع على أمى فى مدينة «السادس من أكتوبر» لآخذ المفتاح ولكى ترافقنى فهى لا تفارق البيت منذ وفاة أبى، لكن نفسى غلبتنى فى النهاية.

اتصلت بأمى فى منتصف الطريق فوجدتها مع أختى فى مشوار عائلى ولن تستطيع الذهاب معى، حاولَت أن تثنينى عن الزيارة وتأجيلها لوقتٍ آخر لكننى أصررت، فأخبرتنى بأن المفتاح مع أخى وسيذهب معى حيث يبعد بيته عن بيت أمى مسافة شارعين، وصلت لمنزل أخى فى الرابعة عصرًا فوجدته يتشاجر مع زوجته على الهاتف، طلبت منه أن يرافقنى للمقابر وقد أوشك النهار أن ينتهى، فناولنى المفتاح من سلسلة مفاتيحه وهو مشتت الذهن يصيح بانفعال شديد ويرد على اتهاماتها، قلت له: هل ستتركنى أذهب وحدى؟ همس لى بعد أن وضع يده على سماعة الهاتف: سألحق بكِ وسأتصل بعم خِضر التُربى لكى ينتظرك هناك ويدلك على المدفن.

وصلتُ للمقابر فى الخامسة عصرًا، المقابر ما زالت تحت الإنشاء وبعيدة عن الطريق بمسافة ليست قليلة، وعلى الرغم من أن رقم المدفن مكتوب على المفتاح فإننى ظللت أبحث عنه ولم أجده، أجوب بالسيارة الشوارع الضيقة المحيطة بالمقابر والقلق يساورنى، فلم أنتبه إلى الطريق الرملى الذى دخلته بالخطأ حيث نظرى كان موجهًا للأسماء المكتوبة على شواهد الرخام أعلى المدافن، فاقتحمَت السيارة كومة من الرمال أمام مقبرة مفتوحة وأبت أن تتحرك.

نزلتُ من السيارة وتلفتُ حولى وكان الصمت مستبدًا ولم يكن للحضور وجود، وقفتُ أصفق بيدى تارة وأصيح باسم حارس المدافن: يا عم خضر أين أنت؟ مرات ومرات لعل الأمر يُحسَم، لكن شيئًا لم يحدث، حاولت الاتصال بأخى لكن شبكة الاتصالات انقطعت تمامًا ولم يكن هناك أى إشارة، خرَّ جسدى على الأرض أنبش الرمال من تحت العجلات دون فائدة.

استسلمت للأمر وتوقفت عن النبش ورفعت رأسى إلى السماء فى كل الاتجاهات ثم وقفت أنفض التراب عن ثيابى كهيئة من يستعد لفعل شىء، خاصة أن الظلام على وشك الهبوط.

عدوتُ بكل سرعتى منهارة ومرعوبة بملابسى المتسخة من شارع إلى شارع ربما أصل للطريق الرئيسى وأجد من يساعدنى، فلمحت من بعيد سيارة نصف نقل تسير فى الاتجاه المعاكس، صحتُ عليها فلم يسمعنى سائقها، فعدت أدراجى جريًا مرة أخرى إلى مكان سيارتى، فوجدت السيارة النصف نقل تتجه نحوى ثم وقفَت على مقربة منى ونزل منها رجلان بجلابيب بيضاء، أحدهما أسمر بشارب كثيف والآخر ملثم بعينين تبدوان لى وكأننى رأيتهما من قبل، لا أدرى متى وأين؟، بادرتهما بالحديث بشجاعة مفتعلة: كنت أبحث عن مدفن أبى حتى غرست السيارة فى الرمال، قال ذو الشارب الكثيف: لا تخافى سنساعدك، قلت بصوتٍ كبرود الأموات: لست خائفة فأخى على وشك الوصول.

قال: هل لديكِ «كوريك» لنرفع إطار السيارة؟

ولَّيتهم ظهرى ومشيتُ نحو شنطة السيارة وأنا أتوقع ضربة على رأسى من الخلف، أو يدًا تكمم فمى ليسحبانى إلى المقبرة المفتوحة ويتناوبا اغتصابى ثم يدفناننى بها وكأن تلك المقبرة قد فتحت اليوم من أجلى، فلا أحد سيرى أو يسمع استغاثاتى.

بحثتُ عن «الكوريك» فلم أجده، فاستدرت إليهما وكانا لم يتحركا من مكانهما وقلت: يبدو أن أحد الأولاد استخدمه ولم يعده إلى مكانه، نظرا لبعضهما وقال الرجل ذو الشارب الكثيف: اذهب أنت وسأنتظر معها، قلت لنفسى متظاهرة برباطة الجأش: يذهب إلى أين؟، ولماذا يلتزم الرجل الملثم الصمت، ومتى رأيت هاتين العينين؟ وهل سيعود برفقة آخرين ليقطعونى إربًا بعد أن ينتهوا منى؟ لا بد أن هذه خطته خاصة أن الرجل ذو الشارب كان مثبتًا أنظاره علىّ ويداعب بأصابعه السمراء شاربه الكثيف.

استجمعت شجاعتى وحاولت أن أدير حديثًا وديًا معه، فحكيت له عن أبى وكرمه وطيبته وكيف كان يساعد المحتاجين، وأننى ابنته الوحيدة، وقد مكث مريضًا فترة طويلة بالمستشفى حتى مات بين يدىّ وقد آلمنى غيابه وو...... وهو لا يحيد نظراته عنى.

كان الظلام قد ساد المكان، ولم يمضِ وقت طويل حتى لاح ضوء السيارة من بعيد، نزل الرجل الملثم وناول زميله ذا الشارب مصباحًا قويًا أنار المكان، وفى اليد الأخرى جنزير من سلاسل حديدية سميكة، ارتعدتُ من الرعب وقلت: حانت نهايتى.

ربط الرجل الملثم طرف الجنزير الحديد أسفل سيارتى وثبَّت الطرف الآخر بمقدمة سيارته، ثم وضع صخرة متوسطة الحجم بمساواة الإطار المغروس فى الرمال وبدأ يبتعد بسيارته بقوة والسيارة تعانده وتثير التراب من تحتها حتى قفزَت مرة واحدة فوق الصخرة وخرجت من الحفرة العميقة.

لم أهتم بنفض التراب الذى كسا شعرى وملامحى، وقلت أحدث نفسى: الآن سيسرقان السيارة وكل ما معى من أموال ويتركانى للذئاب، لكن بادرنى الرجل ذو الشارب قائلًا: اركبى السيارة سنرشدك إلى طريق الخروج، تنفستُ الصعداء وحاولتُ أن أمنحهما كل ما معى من مال لكنهما رفضا بشدة، فقلت للرجل الملثم وهو ينزع جنزيره من سيارتى بصوتٍ مرتعش من الإجهاد والخوف: كتر خيرك ألف شكر، ثم سألته بعد أن ركبت السيارة: ما اسم الكريم حتى أُخبِر عم خِضر التربى عن شهامتكما؟، نظر إلىّ بعينيه الثاقبتين المألوفتين ثم استدار بوجهه عنى فسقط عنه اللثام، وكان وجه أبى آخر ما رأيت قبل أن أفقد الوعى.