رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

السؤال والسعى وراء الجهل الواعى

حصلت مصر على المرتبة ٨٩ عالميًا من بين ١٣٢ دولة، فى مجال الابتكار العلمى، وذلك وفقًا للتقرير الصادر من المنظمة العالمية للملكية الفكرية «WIPO».

هذه النسبة الضئيلة التى لا تتناسب مع حجم السكان أو التاريخ تجعلنا نتساءل عن طريقة تعاطينا فى مدارسنا وجامعاتنا مع العلم. 

فالمعرفة العلمية من حولنا تنمو وتتراكم بشكل مستمر ومتسارع، حتى أصبح العلم عبارة عن جبل من الحقائق العلمية، كيف يمكن لعلمائنا وطلابنا التعاطى مع كل هذه الحقائق والمعلومات؟

إن ضآلة مقدار ما نقدمه من مبتكرات علمية يكشف عن العوار والخلل الذى يتصف به نظامنا التعليمى على كل مستوياته، فهو نظام يقضى على الرغبة والفضول نحو العمل العلمى، ويجعل الطلبة ينفرون من العلوم، وهذا راجع للطريقة النهمة للتعليم، حيث نحشوهم بمجموعة من الحقائق من جهة ليتقيؤوها بعد ذلك فى الامتحان من جهة أخرى بحيث يعودون للمنزل دون أى إضافة فكرية.

ففى عصر جوجل وويكيبيديا صارت المعلومات متاحة بكبسة، ومن ثم فليس من فائدة لتكديس المعلومات فى أذهان الطلاب، المهم أن نعلمهم كيف يستفيدون مما يتاح لهم من معلومات، وأن تجعلهم هذه المعلومات قادرين على طرح أسئلة عميقة وذات معنى، ومن ثم مواصلة البحث عما هو مجهول أو ما لم يتم اكتشافه، وليس حفظ أو تخزين معلومات عما أنجزه العلم بالفعل. 

فى كتابه «السعى وراء الجهل» يقول عالم المخ والأعصاب الأمريكى ستيوارت فيرستاين: 

«علينا أن نجعل طلابنا يتذوقون طعم المغامرة، لما يوجد خارج الدائرة، لما يوجد خارج الحقائق، لما يختبئ خلف الحقائق. الحقائق مهمة، يجب عليكم أن تعرفوا أشياء كثيرة لتصبحوا علماء، هذه هى الحقيقة. لكن معرفة أشياء كثيرة لن تجعلكم علماء. يجب عليكم أن تعرفوا الكثير من الأشياء لتصبحوا محامين أو محاسبين أو كهربائيين أو نجارين. لكن فى العلم، معرفة الكثير من الأشياء ليست هى الهدف. معرفة الكثير من الأشياء تؤدى بك إلى المزيد من الجهل. فالمعرفة هى موضوع كبير، والجهل موضوع أكبر».

توصل إلى هذه التصورات من خلال عمله كأستاذ فى جامعة كولومبيا وكمدير مختبر فى علم الأعصاب، حيث يحاول مع فريقه العلمى من الطلبة المتخرجين والدكاترة فى مرحلة التدريب، التعرف على كيفية عمل الدماغ عن طريق دراسة حاسة الشم، وهو يجد فى هذا العمل تجربة ممتعة وشيقة.

لكنه فى الوقت نفسه مسئول عن تقديم محاضرات حول الدماغ لطلبة الجامعة، عبارة عن ٢٥ محاضرة مليئة بأنواع مختلفة من الحقائق، ويعتمد كتاب «مبادئ علم الأعصاب» ويتكون هذا الكتاب من ١٤١٤ صفحة، ويجد أن هذه المحاضرات مملة. 

هذا التباين بين حالته فى المعمل وفى مدرجات الجامعة جعله يدرك أنه ليس على الطلبة معرفة وفهم كل ما يتعلق بالدماغ، وأن الاعتقاد بأن دور العلماء هو جمع المعطيات والحقائق وتجميعها فى تلك الكتب الضخمة، هو أيضًا اعتقاد غير صحيح. وجد أن ما تخلى عنه الأساتذة فى الجامعة هو الحديث عما لم يتم إنجازه بعد، فبدأ فى تقديم محاضرات على موقعه الإلكترونى للحديث عن الشىء المفقود أو ما أطلق عليه الجهل، وأقام محاورات ولقاءات مع علماء آخرين جاءوا وتحدثوا حول ما لا يعرفونه.

وحين يتحدث دكتور «فيرستاين» عن الجهل هو لا يقصد البلادة، أو عدم الاستنارة، عدم الإدراك، لا يقصد اللامبالاة تجاه الحقيقة أو العقلانية أو المعطيات، هو يقصد نوعًا آخر من الجهل، يقصد نوعًا من الجهل ناتجًا عن فجوة فى المعرفة المشتركة، نوعًا من الجهل هو الجهل الواعى وصفه جيمس كليرك ماكسويل «الجهل الواعى التام هو مقدمة لكل تقدم حقيقى فى مجال العلوم».

لذا فإن الإصرار على أن تطوير التعليم لدينا يكون فقط بإضافة أحدث ما توصل إليه العلم من نظريات أو معارف علمية هو مجهود مضيع للوقت ولمعنى العلم فى وقتنا الحالى، فلا توجد فائدة من زيادة حجم المعرفة دون تطوير القدرة على استخدامها.

علينا أن نعلم أولادنا كيفية السؤال، السؤال هو الأهم الآن وليست الإجابة، وهذا لن يتم إلا بتغيير طريقة التدريس وطريقة الامتحانات أو التقييم بحيث تعتمد على القدرة على ابتكار السؤال الذى يسعى لكشف المجهول وليس حفظ إجابة جاهزة لا تضيف للعلم أى جديد.

يقول دكتور ستيوارت فيرستاين: «بالطبع يحتاج الطلاب لمعرفة الكثير من الأشياء، لكن معرفة الكثير من الأشياء ليست هى الغاية، فهى فقط تجعلكم أكثر هوسًا، صحيح؟ معرفة الكثير من الأشياء، الهدف هو أن تكونوا قادرين على طرح الكثير من الأسئلة، وقادرين على طرح أسئلة مدروسة ومثيرة للاهتمام، لأن تلك هى النقطة التى يجب العمل عليها». 

هل يمكن أن نجد فى مدارسنا طريقة تقييم جديدة للطلاب لا توجد بها إجابة نموذجية محفوظة ولكن قد يكون الجواب هو: 

«لحظة، سأبحث وأجيب، سأسأل أحدهم، سأتصل بأحدهم، سأجد الجواب». 

وفى مرحلة متقدمة قد يكون التقييم هو: «هاكم السؤال، فما هو السؤال التالى؟».