رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الأخضر ينتصر.. العالم يتنفس فى ظلال شرم الشيخ

الاحتباس الحرارى، تغير المناخ، مدن صديقة للبيئة.. الطاقة الخضراء.. الهيدروجين الأخضر.. مصطلحات ومرادفات لم نكن نعرفها وإن سمعناها ندير رءوسنا عنها بعيدًا، هكذا كان الحال حتى أيام قليلة مضت. كلنا يعرف أن «الجو الحار صيفًا»، لم يعد كذلك.. ولم يعد الطقس «دافئًا ممطرًا شتاءً».. لكننا لم نشغل بالنا أبدًا: لماذا تغيرت «النشرة الجوية»؟.. ولماذا وجب علينا أن تتغير مناهج الجغرافيا فى مدارسنا؟.

نسمع كلامًا بحثيًا من علماء وخبراء كلما تيسر.. يحذرون من المجاعات.. ومن أمراض غريبة لم نكن نسمع عنها من قبل. ومن اضطرابات فى البحار والمحيطات وغضب للطبيعة دون أن ندرك أننا نحن بنى البشر السبب الأول والأخير فى ذلك الغضب.. الآن.. أعتقد أن الأمر صار مختلفًا.. وما كنا نظنه بعيدًا عن «توبنا» وملناش دعوة بيه ينام معنا وعلى فراشنا.. الآن ندرك لماذا كل هذا الاهتمام بمؤتمر المناخ الذى ينعقد هذه الأيام فى شرم الشيخ.

لا يخلو الأمر.. من أسئلة غبية من عينة كم صرفنا على كل هؤلاء القادمين من شتى بقاع الأرض.. وكم تكلفت الخزينة المصرية لإنجاز هذا الحدث التاريخى المهم؟.. حسنًا فعل وزير المالية عندما خرج مبكرًا ليشرح لبنى البشر الذين يتصيدون فى الماء العكر.. والمغيبين من الذين يبحثون عن جنازة لممارسة فنون اللطم.. عندما شرح لنا ولهم.. أن هذه القمة ليست الأولى.. وأن كل وفد يشارك فى القمة يدفع ما يُنفق عليه.. ولكل دولة وللأمم المتحدة التزامات محددة.

أراحنا الرجل من الشرح فيما هو مفيد.. وعائد آجل.. وعاجل للسياحة المصرية والاقتصاد المصرى والثقافة المصرية والدولة المصرية وخارجيتها ودبلوماسيتها «الخضراء».. وإن كان البعض لم يفهم أو أنه لا يريد أن يفهم فعليه على الأقل أن يتابع قنواتنا الإخبارية وقنوات العالم أجمع التى جاءت من كل الدنيا لتبحث فى شرم الشيخ التى صارت «خضراء تمامًا».. كيف يمكننا معًا إنقاذ العالم مما قد يحدث فى السنوات المقبلة.

المناخ.. هذه الكلمة البسيطة والساحرة فى آن واحد.. فرضت نفسها على أجندة العالم.. فجاء رؤساء حكوماته وقادته ومنظماته غير الرسمية لا لمناقشة ما جرى.. ولكن للبحث فى آلية تنفيذ ما تَنَاقش فيه العالم من قبل.. بحث «إمكانية» تنفيذ ما وعد به «العالم الحر» لدعم الدول الأكثر تضررًا من عبث العالم بأغنيائه وفقرائه.

منذ سنوات.. كنا نجلس على مصطبة أمام بيت أحد الأصدقاء فى قرية بعيدة من ريف محافظة الشرقية.. وإذا بمجموعة شباب يتسابقون بالموتوسيكلات على الجسر.. والدخان يتطاير من «شكمانات» هذه المصائب الطائرة.. فزع الرجال الموجودون على المصطبة من أهل القرية المضيفة.. اعتبروا ما يفعله الشباب عيبًا وخروجًا على الأخلاق.. وعدم تقدير لوجود رجال كبار من البلد بيننا.. وأن الدنيا تغيرت وماعدش فيه «أخلاق».. وأن جيل الإنترنت «هيخربها».. وزاد أحدهم واتهم الشباب بأنهم سبب رئيسى فى كل حوادث الطرق التى تجرى فى شوارعنا يوميًا.. وأنهم مستهترون لا يعرفون قيمة الأنفس، وفجأة تحدث شاب قادم من «إيطاليا» فى إجازة من عمله الذى يمارسه فى تلك البلاد البعيدة.. وهو يبتسم وأضاف «كل ده ولا حاجة.. اللى بيعمله الشباب دول بعوادم الموتوسيكلات فى السماء فى الجو أخطر بكثير».. يومها سكتنا جميعًا وتحدث الشاب العائد من بلاد بره عن «الثورة الخضراء» وعن «الوقود الحيوى» والطاقة المتجددة.. وعن الجزر والمد.. وعن جينات النباتات.. وتغيرات الخريطة النباتية.. والجوع الذى يهدد نصف سكان العالم بسبب مثل هذه الأشياء الصغيرة.. ومخلفات المصانع الكبرى.. وأضرار الاستعمار الجديد.. أغنياء الصناعة التى تستخدم الفحم فى أعمالها.. كانت «حصة جغرافيا» بالغة العزوبة.. لكننا أحسسنا بغربة والرجل يتحدث.. لكنه عندما تحدث عن زيادة أسعار السلع نتيجة لاختفاء بعضها وعدم قدرة الأراضى على الإنتاج إذا ما استمر الحال على ما هو عليه.. انتبهنا.

أذكر يومها أن رجلًا حكيمًا قال: جمال حمدان حدثنا منذ سنوات طويلة عن الزلازل وحزام الزلازل لكننا «مافهمناش حاجة» وماعرفناش يعنى إيه زلزال غير لما حصل وصحينا على البيوت وهى بتتهد فوق «ريسان الناس».. وباين مش هنفهم حاجة يا بنى من اللى بتقوله غير لما يحصل.. لما تحصل كل الكوارث دى ساعتها جايز نفهم.. ضحك الشاب- العائد من إيطاليا- وأضاف بثقة: «وسع للأخضر يا حج ومش هيحصل حاجة.. ازرعوا شجرًا فى كل حتة.. كل بيت يزرع قدامه شجرة.. هذا أضعف الإيمان».

وفى كل عام.. أو ربما مع كل تعديل فى خريطة المحافظين نقرأ أن المحافظ الفلانى فى المحافظة الفلانية قام مع وفد من الشباب بتوع مبادرة كذا بغرس عدد من الأشجار فى المدينة الفلانية، ثم ينتهى كل شىء حتى العام الذى يليه.. وربما تنقضى ولاية هذا المحافظ دون غرس شجرة واحدة، عدا تلك التى غرسها أمام الكاميرات واختفت بعدها بلحظات.

ومثلما يفعل بعض المسئولين.. الشو وبس.. يفعل الناس.. لأنهم لا يصدقون من الأصل ما يجرى تحت الأرض وفوقها.. لا يثقون فى ما جاء به أهل العلم ويعتبرونه رفاهية زائدة على الحد.. الأهم من وجهة نظرهم.. هو إعادة تبليط الشوارع بعد تكسيرها كل عام حتى تنفد الميزانية! 

هذا العام وقبيل انطلاق مؤتمر المناخ.. قرأت خبرًا أعتقد أنه مر على الكثيرين مرور الكرام.. وزارة البيئة المحلية تتعاقد مع عدد من الشركات ومع وزارتى الزراعة والإنتاج الحربى لتوفير وزراعة خمسة ملايين شجرة «أظنها مثمرة» فى محافظات مصر كمرحلة أولى من مبادرة تهدف لزراعة مائة مليون شجرة فى مصر.

إذن مصر لا تدعم «مؤتمر المناخ» للمنظرة.. هى دولة تعمل.. تنفذ ما ترى أنه السبيل لإنقاذ المستقبل مما يحاصره من أخطار.. كل من يتابع مشروعات الطاقة المتجددة يدرك أن الأمر صار واقعًا.. وأن هناك استثمارات ضخمة فى هذا المجال فى منطقتى السويس وبورسعيد.. وأماكن أخرى.. عمليات تحويل السيارات للعمل بالغاز.. كل هذا يجرى ربما دون دعاية كافية.. لكنه يحدث بالفعل على أرض مصر.. لذلك عندما قالت قارئة النشرة إن مدينة شرم الشيخ صارت مدينة خضراء لم تكن تبالغ أو تتحدث على سبيل «المجاز».

لقد قطعنا شوطًا مهمًا فى هذا السياق بالتوازى مع ما تم استصلاحه من أراضٍ فى مشروعى المليون فدان ومستقبل مصر.. كل شبر يتم استصلاحه وزراعته يختصر المسافة ويوفر شبرًا من «النقاء» فى سماء هذا العالم.. العالم الذى جاء إلينا ليسمع كلمتنا فى نفس اللحظة التى يشاهد فيها كيف تقاوم هذه الدولة أمراض العصر التى خلفها لنا جهل الأغنياء قبل الفقراء.

هذا المؤتمر.. ليس مجرد خارطة طريق.. فقد حدث فى الدورات السابقة أن عرف العالم ما يواجهه من أخطار.. وبحث سبل «الوقاية والمواجهة».. وحدد الأدوار.. لكن البعض أو الغالبية من الدول لم تؤدِّ ما عليها تجاه هذا الأمر وتجاه الدول الأكثر تضررًا.. وجاء مؤتمر شرم الشيخ ليضع الحد الفاصل بين الأخطار وآليات التنفيذ.. جاء الوقت للعمل تحت مظلة «مدينة السلام».. ربما لذلك.. كان أن خرج الرئيس عبدالفتاح السيسى فى نهاية كلمته فى افتتاح المؤتمر إلى ما هو أشمل.. عندما دعا باسمه واسم مصر ورؤساء وقادة العالم الحاضرين إلى وقف الحرب الروسية الأوكرانية.. لا وقت للحرب.. فالعالم يواجه ما يكفى من حروب.. وغضب للطبيعة التى أسأنا فهمها وعاملناها بغشم.. فكانت أن زمجرت وأخرجت أثقالها.. وها نحن نبحث عن «السفينة».. فربما ننجو.

هذه النقاشات.. وهؤلاء البشر.. قادة وعلماء وخبراء ومهتمون.. ليسوا هناك للفسحة ولا الاستمتاع بسحر مدينة السلام.. لكنهم يعملون من أجلنا.. فهل نساعدهم على الأقل بأن نعرف ماذا ينتظر العالم إذا لم ينتصر الأخضر؟