رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عشْر سنوات فى مسيرة محبة أبدية

سريعة هي الأيام تمضي، ولكن بعضها تبقى سجلاته خالدة في ذاكرة البشر وضمائر الشعوب لما لها من أهمية وتأثير، واليوم تمر علينا ذكرى واحد من تلك الأيام التي ستبقى خالدةً في ذاكرة الوطن، ففي مثل هذا اليوم قبل عقد كامل من الزمان كان اختيار الأنبا تواضروس الثاني بابا للإسكندرية وبطريركًا على كرسي الكرازة المرقسية، وتشاء الأقدار أن يكون يوم وقوع القرعة عليه ليتم ترسيمه البطريرك الـ118 في تاريخ الكنيسة المصرية هو نفس يوم العيد الستين لميلادهم، بما نفسره بأنه كان بُشرى بميلاد حقبة جديدة من المحبة والأخوة التي تربط المصريين.
وخلال السنوات الأولى لاختياره بطريركًا لم تكن مصر في أفضل أحوالها، فقد كانت أحداث الثورة المصرية قد بلغت ذروتها، وتباينت المواقف واختلطت الرؤى بين مؤيد ومعارض ومستغِل ومستغَل.
ومع تصاعد الأحداث كانت هناك تيارات متطرفة تسعى للعبث باللُحمة الوطنية، كما كانت هناك قوى خارجية تستهدف وحدة الوطن بتشتيت جهد العقلاء في كتلتيه الوطنيتين مسلمة ومسيحية، ولكن حكمة الله وإرادته كانت قد اختارت لمصر زعيمين دينيين ساندا الدولة الوطنية وتصديا لكل محاولات استغلال الأحداث وإفساد علاقات المحبة التي كانت هي السمة الغالبة في علاقات الشعب الواحد.
أجل فقد تكشّفت سريعًا موسوعية ورجاحة عقل فضيلة الإمام الدكتور أحمد الطيب شيخ الجامع الأزهر بحكمته التي تجلّت منذ اختياره للمشيخة في 19 مارس 2010، وثبت الرجل في مواقفه أمام تيارات التطرف التي حاولت أن تجر مؤسسة الأزهر إلى صفها جرًا، كما رسّخت مواقفه مكانة الأزهر كمؤسسة وطنية تدعم الوطن وتنحاز للفكر الوسطي حيث لا إفراط ولا تفريط.
وفي ذات السياق المدرك لقيمة الوطن والساعي للحفاظ على ثوابته جاء البابا تواضروس الثاني ليكمل مسيرة البابا شنودة الثالث ذلك الحكيم الذي ثبت في مواقف كثيرة مدافعًا عن قيم الكنيسة المصرية ومحافظًا على انحيازها الدائم لصالح الوطن.
وبعد اختيار البابا تواضروس والذي جاء في مرحلة فاصلة في تاريخ الوطن تعرض نيافته سريعًا لاختبار قاسٍ تمثّل في عدد من الحوادث الإرهابية التي ضربت عددًا من الكنائس. ولكن الحدث الأكبر وقع في ديسمبر 2016 وتمثّل في انفجار شهدته الكنيسة البطرسية الملاصقة للكاتدرائية المرقسية بالعباسية والذي أسفر عن مقتل 29 مصليًا وإصابة 49 آخرين.
وحينها أعلن السيد الرئيس عبدالفتاح السيسي الحداد العام في البلاد لمدة ثلاثة أيام، حدادًا على ضحايا الحادث، ثم عادت وتكررت محاولات النيل من النسيج الوطني بعمليات إرهابية تكررت في عام 2017 في أكثر من موقع كنسي وأكثر من محافظة.
ولكن حكمة البابا تدخلت لوأد محاولات الفتنة مما فوّت الفرصة تلو الأخرى على المتربصين بأمن الوطن، وخرجت تصريحات قداسته تتسم بالوطنية والانضباط اللتين تميزت بهما الكنيسة على مدار تاريخها.
فقد صرّح قائلًا: "لو حرقوا الكنائس سنصلى بجانب إخوتنا في المساجد، ولو حرقوا المساجد سنصلى مع المسلمين في الشوارع".
ثم عاد ليؤكد في أكثر من مناسبة: "الوحدة الوطنية أغلى شيء لدى المصريين". 
ورغم هذه المحبة المتبادلة التي يُكنها الأزهر للكنيسة والمواطن المصري المسلم لشقيقه المواطن المصري المسيحي، لا يدهشنا سماع بعض الأصوات النشاز التي تغرد خارج السرب بصوت هو أقرب لنعيق الغربان.
حدث مثلًا أن الإذاعية شيرين عبدالخالق، أجرت حوارًا موسعًا مع البابا تواضروس فأصدرته في كتاب حمل اسم "سنوات من المحبة" وقدّم له المستشار عدلي منصور، رئيس الجمهورية المؤقت السابق.
حينها كتبت على صفحتي الشخصية معلنًا عن سعادتي بهذا المنجز المهني ومهنئًا زميلة عمل أقدّرها مثنيًا على خطوتها المهنية الاحترافية، فإذا بأحد الجهلاء يقتحم صفحتي - وهو ليس بصديق - معلقًا تعليقًا ينم عن جهل مستعيذًا بالله من النفاق ومهددًا بسوء الخاتمة! فشاهدت التعليق ولم أحذفه كما لم أعلق عليه، مكتفيًا بالقول: تلك والله أجسام - ولا أقول عقولًا - فقدت الإحساس بقيمة الوطن وحُرمت فهم سماحة الدين.
ولأننا هنا بصدد تهنئة البابا بعيد ميلاده وبذكرى اعتلاء البابا تواضروس الكرسي البابوي، فلا أجد مجالًا للاستشهاد بما أورده الفقهاء من أدلة شرعية تدعو إلى عدم الإكراه في الدين ولا أجد متسعًا يسمح بذكر مواقف تاريخية تأمر بالتسامح الذي علّمنا إياه أئمة الوسطية العقلاء.
أما أولئك المتطرفون فنكتفي بأن ندعو لهم بالهداية وبأن يتفهموا صحيح الدين الداعي للمحبة والسلام.
وستبقى علاقة المسلم بالمسيحي في أرض الكنانة نموذجًا تاريخيًا وإنسانيًا يحتذى، لا تفلح في اختراقه سهام المتربصين، ولا ينجح في تشويهه تآمر الحاقدين.
أدام الله مصر في وحدة وأمان وحفظ إمامها الأكبر وبارك حبرها الأعظم وحمى رئيسها الوطني ورعى شعبها الواعي المتآخي المسالم.
وبإذن الله ستستمر مسيرة المحبة بين عنصري الأمة مدى الدهر طالما بقيت قياداتها الدينية تعي قيمة هذه المحبة وتدعو لها وتدافع عنها.
وما أبلغ مكرم عبيد باشا حين لخّص علاقة المصري المسيحي بوطنه قائلًا: "نحن مسلمون وطنًا ونصارى دينًا، اللهم اجعلنا نحن المسلمين لك، وللوطن أنصارًا.. اللهم اجعلنا نحن نصارى لك وللوطن مسلمين".