رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

نون النسوة.. قصة ثلاث مصريات من عصر ما قبل النقاب

جريدة الدستور

طريق طويل قطعه سلسال من نساء مصر العظيمات فى طريقهن نحو الحرية والتعليم وتشكيل شخصية المرأة المصرية، نسوة سجل التاريخ أسماءهن بأحرف من نور، وتشكل معهن جزء عزيز من شخصية مصر الحديثة، ٩١ عامًا تمر علينا الآن منذ دخول أول فتاة مصرية الجامعة، و١١٥ عامًا على ميلاد السيدة لطفية النادى، أول امرأة تقود طائرة فى مصر والوطن العربى وإفريقيا، تحتفل معها «الدستور» اليوم، بحكايتها التى تضرب خير مثال للريادة المصرية للمنطقة، وتستعيد معها حكايات أخرى لوجوه من رائدات الحركة النسائية المصرية، فى محبة السيدة أمينة السعيد، والفنانة بهيجة حافظ.

تستحق الحكايات الثلاث ومعها حكايات أخرى كثيرة لعظيمات مصر نستعرضها فى الملفات المقبلة، أن نحتفظ بها فى قلوبنا، وأن تكون أسماؤهن يومًا فى مناهجنا الدراسية، يتناقلها الأطفال والشباب جيلًا بعد جيل.

لطفية النادى: أول مصرية وثانى امرأة فى العالم تقود طائرة عام 1933

ولدت لطفية النادى فى نهاية أكتوبر عام ١٩٠٧، وهى أول امرأة من القارة الإفريقية تحصل على إجازة الطيران فى عام ١٩٣٣، وكان ترتيبها بين الطيارين المصريين رقم ٣٤، لم يسبقها سوى ٣٣ رجلًا مصريًا.

ويسجل التاريخ للطفية النادى أسبقيتها بين نساء مصر والعرب وإفريقيا، كأول فتاة مصرية عربية إفريقية تحصل على إجازة الطيران، وأول امرأة مصرية تقود طائرة بين القاهرة والإسكندرية، وثانى امرأة فى العالم تقود طائرة منفردة.

مع «مستر كارول»، كبير معلمى الطيران بالمدرسة الجوية فى مطار ألماظة، تعلمت لطفية النادى الطيران فى ٦٧ يومًا، ليشهد أكتوبر من عام ١٩٣٣ حضورًا صحفيًا كبيرًا يشاهد أول طيارة «كابتن» مصرية.

كان والد «لطفية النادى» يعمل فى المطبعة الأميرية، وكانت أمها هى سر حياتها، صارعت الأم من أجل الحفاظ على حق ابنتها فى التعليم، بعد أن قرر والدها أن تترك التعليم بعد نهاية المرحلة الابتدائية، إلا أن الأم الحازمة رأت أن تذهب مع ابنتها لنهاية المطاف، وقررت إلحاقها بـ«الأمريكان كوليدج».

بعد إنهاء الدراسة لم يكن طريق لطفية النادى سهلًا إلى حلمها، الذى بدأ يداعبها فى الطيران، عملت فى البداية سكرتيرة بمدرسة الطيران، وكان والدها متعجبًا من رغبتها فى تعلم الطيران، فبدأت تحضر دروس الطيران مرتين أسبوعيًا دون علم والدها، وكانت تعمل فى مطار ألماظة بغرض الحصول على المال لتمويل تعلمها الطيران فيما بعد.

لعب الكاتب الصحفى أحمد الصاوى، صاحب العمود الصحفى «ما قلّ ودل» بجريدة الأهرام دورًا مهمًا فى مساندة حلم لطفية، ودعم محاولتها بعد أن لجأت إليه، والتقى بوالدتها.

السيدة هدى شعراوى، كانت من مساندى حلم لطفية أيضًا، وبعد تعلم لطفية النادى الطيران، دعت هدى شعراوى لمشروع اكتتاب من أجل شراء طائرة خاصة للطفية، لتكون سفيرة لبنات مصر، وتسجل لريادة المرأة المصرية.

أثمرت جهود لطفية عن تشجيع فتيات مصر بعدها لخوض التجربة، فلحقت بها أولى دفعات الكباتن المصريات، تتقدمهن «دينا الصاوى»، و«زهرة رجب»، و«نفيسة الغمراوى»، و«لندا مسعود» أول معلمة طيران مصرية، و«بلانش فتوش»، وعزيزة محرم، و«عايدة تكلا»، و«ليلى مسعود»، و«عائشة عبدالمقصود»، و«قدرية طليمات».

ورغم ريادة «لطفية النادى» إلا أن هناك أزمة توثيق حقيقية تخص سيرتها، تستحق توجيه جهد الباحثين، ويحسب للمخرج المصرى «وجيه جورج» المقيم ما بين سويسرا ومصر، قيامه بتقديم فيلم تسجيلى مهم يرصد مسيرة لطفية النادى، يعتبر هو أهم المواد المصورة عنها.

أمينة السعيد أول طالبة فى الجامعة وأول رئيس مؤسسة صحفية

رحلة خالدة لفتاة صعيدية تحدت المستحيل، وخاضت مغامرة مثيرة عكس اتجاه الريح، لتنجح فى أن تفتح الطريق لعشرات الآلاف من الفتيات بعدها للقتال من أجل حقهن فى التعليم وفى النجاح.

ولدت أمينة السعيد عام ١٩١٠ بمدينة أسيوط فى صعيد مصر، وعاشت طفولتها وسط مجتمع أسيوط المغلق بقلب الصعيد، فى الوقت الذى كان نضال الحركة النسوية المصرية قد بدأ فى الانطلاق سريعًا على يد السيدة هدى شعراوى، وجاءت ثورة ١٩١٩ لتفتح الطريق للأفكار التنويرية لاختراق المجتمع المصرى، وطرح تأثيرات فاعلة فى حياة المصريين، بعد نجاح أفكار تلك الثورة فى الدخول لكل بيت مصرى.

كان والدها الدكتور أحمد السعيد، الذى يعمل فى مجال الطب، صاحب رأى حر، وكان يأمل فى أن يكون طريق أبنائه إلى التعليم أسهل من طريقه، فساعد ذلك فى دعم رغبة أمينة السعيد فى مواصلة مشوار تعليمها، وعندما بلغت الرابعة عشرة من عمرها، انضمت إلى الاتحاد النسائى، الذى كان منصة حقيقية ومهمة للدفاع عن الحريات وحقوق المرأة، لذلك عندما جاء عام ١٩٣١، كانت أمينة السعيد ضمن أول دفعة من الفتيات المصريات تلتحق بجامعة القاهرة.

أصبحت «أمينة» أول فتاة مصرية تعمل فى الصحافة، وذلك فى بدايات الثلاثينيات من القرن الماضى، بعد أن بدأت عملها مبكرًا كمتدربة وهى ما زالت فى مرحلة الدراسة الجامعية، نجحت أمينة السعيد فى التشبع بروح صعود الشخصية المصرية ما بعد ثورة ١٩، فخرجت مقاتلة شجاعة وقوية، تقف ضد التخلف وضد التمييز على طول الخط، أحبت الحياة ومارست كل ما ترغب فيه بحرية، وعندما واتتها فكرة التمثيل وهى طالبة، فعلتها بلا تردد رغم رفض والدتها وشاركت فى مسرحية «المرأة الحديدية» لتوفيق الحكيم، وغيرها.

نضجت أمينة السعيد سريعًا فى رحاب «كلية الآداب»، التى كان عميد الأدب العربى «طه حسين» على رأس أساتذتها، كما أنها نجحت فى تكوين خبرة سريعة بالعمل الصحفى أهّلتها لصعود سريع، بعد أن تنقلت بين العديد من المجلات خلال فترة الجامعة، منها «الأمل وكوكب الشرق وآخر ساعة والمصور»، ولكن بعد تخرجها عام ١٩٣٥ التحقت بالعمل فى دار الهلال، حيث مجلتى «المصور» و«الهلال» أعرق المجلات العربية، لتبدأ من هذا العام مسيرتها المظفرة فى الصعود لقمة الصحافة المصرية والعربية، وكان دفاعها عن المساواة بين الرجل والمرأة هو الخط الأساسى لكتاباتها القيمة التى تغير معها تاريخ مصر.

عرفت أمينة السعيد بجرأتها وموهبتها الكبيرة فى صناعة الصحافة، ورغم أنها تخصصت لسنوات فى صحافة المرأة حتى اعتبرت رائدة صحافة المرأة العربية، إلا أن خبراتها فى الكتابة السياسية والاجتماعية خطفت أنظار المتخصصين والسياسيين والقارئ العام، واشتهرت أمينة السعيد بباب «اسألونى»، والذى فتح لها نجاحه الطريق لتحقيق المزيد من النجاحات فى ساحة الإذاعة وغيرها.

هى أول سيدة تترأس تحرير مجلة «حواء» التابعة لدار الهلال، حتى ارتبط اسم المجلة باسمها، خاصة بعد نجاحات «حواء» الكبيرة فى عهدها، حيث كان معدل توزيعها يتجاوز ١٧٥ ألف نسخة، كما نجحت فى تقديم صياغة جديدة لصحيفة المرأة تهتم بالقضايا الحادة والحيوية توازيًا مع المواد التى تقدم نصائح الجمال ووصفات الطهى المعتادة فى مجلات المرأة لعقود، لذلك أصبحت أول امرأة مصرية وعربية تقود مؤسسة صحفية فى التاريخ، وذلك عندما تولت رئاسة مجلس إدارة مؤسسة دار الهلال الصحفية العريقة، إضافة لحصدها الكثير من الجوائز والتكريمات، وعلى رأسها وسام الجمهورية من الطبقة الأولى.

كانت واسعة الاطلاع على الثقافات الأخرى، وترجمت كتاب «معجزة الحب» لبارى كوفمان، والذى يناقش مرض التوحد، لتخفيف المعاناة عن المصابين به وعائلاتهم، ثم ترجمت كتاب «نساء صغيرات» للويزا ماى ألكوت فى مجلدين، وهو الكتاب الذى ينقل معايشة لمعاناة النساء فى ظروف الحرب.

كانت مقالات أمينة السعيد مصدرًا لإلهام الكثير من بنات جيلها، ولذلك فقد حققت كتبها نجاحات جماهيرية، ومن أبرز إصداراتها: «وجوه فى الظلام» و«مشاهدات فى الهند» و«من وحى العزلة» و«الهدف الكبير» و«آخر الطريق»، إضافة لرواية «حواء ذات الوجوه الثلاثة».

بهيجة حافظ: أول مؤلفة موسيقى تصويرية فى تاريخ السينما المصرية والعربية

محطة ساحرة فى تاريخ الحركة النسائية المصرية، مع بهيجة حافظ، بنت الإسكندرية، التى ولدت فى أغسطس ١٩٠٨ بحى محرم بك، وجاءت إلى العاصمة لتحجز لنفسها موقعًا رائدًا فى التاريخ الفنى المصرى والعربى.

هى ابنة عائلة عريقة، والدها إسماعيل محمد حافظ، كان يعمل ناظرًا للخاصة السلطانية فى عهد السلطان حسين كامل، كان إسماعيل باشا حافظ والد بهيجة، من محبى الفن الحقيقيين، الرجل الأرستقراطى السكندرى يعشق الموسيقى وتملأ كل قلبه، يجيد العزف على العود وعدة آلات موسيقية أخرى، ومن هنا جاء الميراث الأول الذى تركه الوالد لابنته، وهو الارتباط بالموسيقى، فجاءت بهيجة حافظ إلى عالم الفن السابع على إيقاع موسيقاها الخاصة، وكانت حكايتها متفردة.

أحبت «بهيجة حافظ» الموسيقى قبل أن تحب أى شىء، عُرفت بحبها للموسيقى، وبدأت حياتها مع الفن بالعزف على البيانو فى سن مبكرة، وكان بداية طريقها الأكاديمى الفنى مع الموسيقى أيضًا، وذلك عندما سافرت إلى العاصمة الفرنسية «باريس»، للدراسة الفنية، لتحصل على الدبلوم فى التأليف الموسيقى.

كان طبيعيًا مع كل تلك الخطوات السريعة التى قطعتها الفتاة السكندرية قبل أن تبلغ العشرين من عمرها، أن تكون هى أول من وضع الموسيقى التصويرية فى تاريخ السينما المصرية والعربية، وصاحبة أول أسطوانة موسيقية تصدر فى القاهرة عام ١٩٢٦.

الملفت فى نشأة بهيجة حافظ هو أن ارتباطها المبكر بالفن لم يؤثر على مسارها التعليمى أيضًا، فدرست فى مدرستى «الفرنسيسكان» الإيطالية و«الميردى دييه» الفرنسية فى الإسكندرية، ما ساعد على اكتمال نضجها ورؤيتها الواسعة للحياة والتى صنعت منها فنانة شاملة فيما بعد.

عملت بهيجة حافظ فى السينما كمؤلفة موسيقية وكممثلة وأحيانًا كسيناريست ومخرجة لتكون واحدة من أوائل النساء اللاتى عملن فى السينما لتنضم إلى أسماء مثل عزيزة أمير وفاطمة رشدى وآسيا داغر ومارى كوينى، صنعن معًا قطعة عزيزة من التاريخ الفنى لمصر.