رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ضوء فى الشرفة

خفق قلبى بالحب لأول مرة وأنا صبى فى الثالثة عشرة، خفق بحب شريفة، التى كانت للفيلا الخاصة بوالدها شرفة مفتوحة على الشارع الطويل المعتم، وكانت تجلس وحدها كل مساء فى الشرفة تحت ضوء مصباح صغير معلق ينشر هالة من النور الخفيف حول رأسها ويتفرق فى هواء الشارع الصامت. لم أحدثها قط، لم أقترب منها، والأرجح أنها لم تلحظ وجودى، لأنى كنت أكتفى بالمرور كل مساء على الرصيف المقابل لشرفتها، أخطف النظر إلى وجهها وكتفيها وهى جالسة أشبه بنجمة مشعة فى اكتمال شبابها وجمالها.
كنت صبيًا صغيرًا مثل عشرات الصبية من شارعنا المعتم المهمل الصامت، فلم تعرف أننى أتطلع إليها، كانت أول من خفق قلبى بها، أو أن ذلك كان أول أوهام المحبة، ومن ضوء تلك الشرفة ترامت فى حياتى أوهام المحبات، وهمًا بعد آخر، وظللت طوال عمرى أمشى على ذلك النور الخافت ما بين خيالى والحقيقة، وأنا أسأل نفسى: ما الذى أود أن أحققه فى حياتى التى ظهرت عرضًا؟ وهل يصلح العمد والقصد فى رحلة تمت بالمصادفة؟
أحببت بعد ذلك بسنوات وأنا فى السابعة عشرة، وكتبت إليها رسائل مطولة، وغمرتنى بحنانها، لكن اعتقالى لسنوات أحبط كل شىء، وحين خرجت من المعتقل كانت قد تزوجت، ظللت طويلًا أرى عينيها الواسعتين تشعان بضوء الشرفة القديمة، تتألقان بالوهم والأمل العميق.
سافرت خارج مصر وتزوجت، ولم يكن فى قلب زوجتى ولا عينيها شىء لا من الحلم ولا من الوهم، عشت بجوارها لكن ليس معها، مثلما تسير بجوار شريط قطار، ثم تزوجت ثانية وثالثة، وكنت دون وعى أفتش عن ذلك النور الخافت الذى أضاء قلبى، إلى أن التقيت بها، فوقعت فى حبها، والأدق أن أقول فارتفعت بحبها، ولم أجد سببًا واضحًا لذلك العشق العارم، وقلت لنفسى ليس حبًا ذلك الذى نعرف أسبابه، لأن الحب يبقى بئرًا عميقة من الأسرار والذكريات والصور التى تندلع مجتمعة فجأة مثل كرة من نار، لكننا افترقنا رغم المحبة، فانجرفت إلى ذكريات المحبات الخائبة التى مرت.
وأخذت أتساءل: لماذا لم يبقَ على أطراف روحى سوى مرارة من سعادة؟ وحزن من فرح؟ ويأس من أمل؟ وكيف تحطمت أوهامى الجديدة على صخرة أوهامى القديمة؟ فإذا بلا شىء بين يدى؟ لا شىء سوى بقايا حياتى التى انقضت ذرة مشعة بالخيال والحب والأمل. ها أنا ألقى على العالم نظرة أخيرة، أوصد أبوابه، أحكم الرتاج على نافذته المطلة على الزمن، أدير ظهرى للدنيا، أغذ الخطى وقدماى تتعثران بالأغنيات القديمة واستدارة عنقك وبسمة عينيك ونور الشرفة الخافت البعيد، أغذ الخطى وليس فى قلبى سواك مشعة فى دمى، مشعة فى خيالى الذى فاق كل شىء.
أمضى يغمرنى شعور بالثقة بأننى حين ألقى وجه ربى سيرأف بى.. ويقول لى: مغفورة لك كل ذنوبك، كان قلبك يخترع العالم وقد أتعبك ذلك، وأتعبتك الأحلام التى عاقبتك بالرقة وعذبتك بالحنان وبددتك بالشوق، استرح هنا واهدأ وكف عن اختراع العالم. ولسوف أجلس مطيعًا ممتنًا أستريح فى ظل الرحمة، أضم ركبتى إلى صدرى وأبذل قصارى جهدى لكى أنسى عينيك، ونور الشرفة الخافت بعيدًا، وأنحى بعيدًا الوهم العذب والأمل العميق.