رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ٌإلى أمى «نوال السعداوى» فى يوم ميلادها 22 أكتوبر

ماما.. فطيرة الدُرة هتبرد

"ماما"

الشاى خلاص جاهز

أصابعى تروح وتجىء

على شَعرها الأبيض

عله يقرضنى حكمته

وسِحر لونه الثلجى

"ماما"

تفتح عينيها السوداوتين

مبتسمة كعادتها وهادئة

مثل إشراقة الشمس فى الشِتاء

أضمها إلى صدرى

لنصبح امرأة واحدة

تبكى أسبابًا غامضة

دون بكاء

أقبل وجنتيها ورأسها

قائلة: النهارده يا ماما عيد الأم

وأول أيام الربيع

كل سنة وأنتِ أمى وطفلتى

جبتلك هدية نفسك فيها من زمان

تقول: هو إحنا عندنا عيد أم ولا عيد ربيع

هديتى خلاص خدتها من زمان

لما ولدتك يا نونا

تتوقف عن الكلام

تزداد عيناها اتساعًا

يشع بريقهما الطفولى

ذهبت بقايا النوم

وجاءت فرحة "نوال"

مهلهلة: دى ريحة فطيرة الدُرة

عرفتى تعمليها يا نونا

كنت نايمة بحلم بيها

وشفت أمى فى المنام

بتصحينى زيك كده

عشان أقوم آكل منها

يالّا يا نونا

جهزى الشاى يا حلوة

واستنينى فى المطبخ

تحتضننى بسعادة

كأنما أهديتها الكون كله

أشعلت عود بخور برائحة الياسمين

أعددت الشاى

لا تشربه إلا فى كوبها الزجاجى

المنقوش بالورود الحمراء

لا أشربه إلا فى فنجان صينى

وضعت فطيرة الدُرة فى المنتصف

رائحتها تملأ المكان

ناديت عليها: ماما يالّا كله جاهز

والبسى الروب الأزرق النهارده برد أوى

انتظرتها.. لا تأتى

ولا أسمع صوتًا لها

أحيانًا تحب أن تستمتع

بالدش الساخن مدة أطول

مرة أخرى أناديها

فطيرة الدُرة هتبرد يا ماما

لا يأتينى أى رد

أنتظرها وأنا شاردة

أرتشف الشاى الساخن

اخترق الكافيين كيمياء مخى

وفى لحظة نبهنى

أن اليوم فعلًا عيد الأم

وبداية موسم الربيع

وأن اليوم حقًا هو 21 مارس

لكنها سنة 2022

الذكرى السنوية الأولى

لرحيل أمى عنى

سنة بأكملها

أردت شطبها من ذاكرتى

ومن حسابات العمر

ماما.. فطيرة الدُرة هتبرد

جملة يرددها الهواء

تكسر الجدران

تشق بسِكين صدرى

لتبقى هناك

حتى ألقى أمى

تحت التراب وفى يدى

الشاى وفطيرة الدُرة

أسدلت ستائر المطبخ

بمفرش أبيض غطيت فطيرة الذرة

تذكرها بحنان أمها سابقة عصرها

ورائحة الطفولة بين تسع أخوة وأخوات

مع الأب الوفى المتواضع المستنير

ماما.. فطيرة الدُرة هتبرد

سيبقى دائمًا النداء

من سنة إلى سنة

الذى لن تسمعه

والدعوة التى لا تستجيب لها

قضية رغم ثبوت التهمة

وتوفر الأدلة والشهود

واعترافات تفصيلية من الجانى

يحولها قضاة الزمن

إلى قضية باردة

لا مبالين بغليان الشاى وقلبى

وسخونة فطيرة الذرة

*************

الأعياد بعد أمى

أقترب عيد من الأعياد

أى عيد يدخل صدرى

وهى فى الأفق البعيد

شم للسموم ورائحة الدم

خيانة لا أحتملها

تسلق غير مجدٍ للعبث العنيد

اقترب عيد من الأعياد

بعد اختفائها عن زمانى

لم يعد بإمكانى

أن أشم إلا هواء الفراق

الأعياد بعدها سخف وضجر

لا تروى شهقات الفرح

لا تهدئ أنين الاشتياق

اقترب عيد من الأعياد

صخب وأكلات وتهانى وألعاب وضحكات

المشاهد نفسها منذ آلاف السنوات

لا شىء جديد نبدعه

حتى فى الأفراح والأعياد والمناسبات

اقترب عيد من الأعياد

أترك الناس فى دنياهم المبرمجة اللاهية

وأجلس وحدى فى هدوء وشجن

أتأمل كيف أصبحت حياتى

كيف استغفلنى الزمن

لماذا لا أستطيع الذوبان فى القطيع؟

لماذا لا أستطيع الاحتفال؟

لماذا لا أستطيع عبور السد المنيع؟

لماذا لا أرى إلّا التهديد والترويع؟

اقترب عيد من الأعياد

عيد الكحك أو عيد شم النسيم

أو عيد الربيع

فأنا لا أشعر إلا باعتكافى

وغربتى عن الجميع

مالى أنا ومال الأعياد

وكأن الذى يحول بينى وبين السعادة

كأن الذى يحجب عنى الهناء والنعيم

هو مجرد عيد من الأعياد

وليس غيابها الضارب قلبى فى الصميم

اقترب عيد من الأعياد

ليذهب بدونها سريعًا.. بعيدًا

إلى منتهاه وإلى الجحيم

اقترب عيد من الأعياد

كيف يجرؤ على المجىء

يستهلك الملامح

يكرر المنوال

كيف؟

وهى ليست معى

تلك السمراء الفاتنة

الشجاعة المبدعة

الرقيقة الحانية

أمى "نوال"

 

الفاتنة السمراء ذات الشعر الأبيض

منذ أزمنة التأمل والبكاء

أراهن على آلاف الأشياء

لم يربح فى السباق

إلا حصان أدهم متمرد

راهنت على مليون امرأة

لم تفز إلا "نوال"

أمى ذات الشَعر الأبيض

المسافر فى كبرياء وتفرد

*************

اسم أمى

فى عيد الأم منذ عدة سنوات

أردت أن أحتفى بأمى "نوال"

أمى لا تحب الأعياد المقننة

ولا تحب الهدايا

تعتبرها رشاوى مقنعة

كتبت مقالًا بعنوان

"اليوم سأحمل اسم أمى"

هذه هديتى المختلفة لأمى

فى عيد الأم

شتمونى.. كفرونى

إلى المحكمة جرونى

دافعت عن نفسى بسؤال واحد

ولم يجبنى أحد حتى الآن:

"كيف تكون الجنة تحت أقدام الأمهات

وأسماء الأمهات عار وفضيحة وخذلان؟

*****************

لن أخذل أمى

بهدوء وصمت وابتسامة

أنسحب

لو لم أجد نفسى دائمًا

فى مقدمة الصفوف

الصف الأول بالتحديد

هذا مكانى

أنجبتنى أمى له

لن أخذل أبدًا أمى

وجيناتى الوراثية

لأحصد سعادة الجوارى والعبيد

************

أمى.. اطمئنى

واجهت متاعب الحمل

تحملت آلام المخاض

وربما أصابها

اكتئاب ما بعد الحمل

المقدر على الأمهات

هل تحملت أمى كل هذا

لأكون نسخة مكررة من الناس

صوتًا تائهًا مروضًا بين الأصوات؟

أمى.. اطمئنى

لن أكون ترسًا

مشابهًا لملايين التروس

لن أخنق أنفاس كرامتى

أختن لسانى بموس الولاء

يجندنى حزب انحناء الرءوس

أموت من العطش ليرتوى

الأوصياء والوسطاء

يتركون الجوهر ويتمسكون بالطقوس

اطمئنى يا أمى

لن يخدعنى واحد من الذكور

لن أمشى على الطريق المستقيم

يرسمه الحمقى وساكنو الأضرحة والقبور

سأكتب كما فعلت دائمًا

لأرضى وأسعد ذاتى

ليس إرضاء وإسعادًا لذائقة الجمهور

***********

  1. أشكو إلى أمى

متعبة وأشكو إليكِ يا أمى الحبيبة

ابنتك الوحيدة فى اعتكافها تتألم

بكامل حريتى اخترت عزلتى وابتعادى

وجدت راحتى وسعادتى داخل صومعتى

رضيت بالألم ولا يرضى الألم

والحياة مصرة على اقتحامى وإجهادى

متعبة وأشكو إليكِ يا أمى الحبيبة

لا أريد الخروج من شرنقتى

لكن الحياة تغار من زهدى

ورضائى وقناعتى واكتفائى بأقل القليل

انصحينى يا أمى

جسدى يصرخ وينادى

متعبة منهكة

والكل يريد كسر عنادى

**********

كانت أمى

مع تقدم العمر

أنظر إلى أمى فأرانى

أنظر إلى نفسى

فأرى أمى

مع تقدم العمر

أصبحت أشبهها

الخصلات البيضاء

الروح الساخرة

الزاهدة فى الأشياء

مع تقدم العمر

تذوب الحدود بينى وبين أمى

أصبح لى فصيلة دمها النادرة

ورنة ضحكتها الغامرة

قلبها العفوى الطفولى

رقتها المفعمة بالصلابة

حيوية قتلتها أخطاء الأطباء

قلمها العاشق لشدو الكتابة

مع تقدم العمر

تبادلنا الأدوار

أصبحت ابنتى

ولم تعد أمى

حزنها حزنى

أمدها بأفراحى المشكوك فى أمرها

وهمها أصبح همى

الآن ألتفت حولى

فلا أراها ولا أسمعها

أشياؤها الحميمة موجودة

وهى غائبة أين ذهبت؟

أين اختفت؟

بحثت فى كل مكان

بعناء ودون جدوى وبكاء

كانت فى كل مكان

واختفت من كل مكان

لكل منْ يهمه الأمر

ابحث معى عن أمى

لكل منْ يعنيها الأمر

ابحثى معى عن أمى

ممشوقة القلم والقوام

والكرامة والأحلام

فاتنة سمراء بشَعر لون الثلج

خطواتها رشيقة تقفز إلى الخطر

عينان يقظتان تلمعان بلون الليل

تضيئان النصف المعتم من القمر

لن تخطئوها

فهى لا تشبه أحدًا إلا نفسها

إن وجدتوها

أخبروها أن ابنتها الوحيدة

بالألم تنزف

إلى أحضانى أرجعوها

إلى قلمها وسريرها

إلى ابنها ومعطفها الأزرق

من رحمها جئت

لكنها كانت طفلتى