رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الاستعمار والحداثة «1-2»

عاد موضوع الحملة الفرنسية على مصر للطرح من جديد، لا سيما مع الاحتفال بمرور مائتى عام على فك رموز اللغة المصرية القديمة. وأثار تمثال شامبليون وهو يضع قدمه فوق رأس الفرعون المصرى رمسيس الثانى عاصفة من الاحتجاج، وأعيد طرح السؤال عن دور الاستعمار فى تاريخنا.

ولنتذكر ما حدث فى عام ١٩٩٨ عندما دعا البعض إلى الاحتفال بمرور مائتى عام على الحملة الفرنسية؛ إذ اعترض العديد من المثقفين والسياسيين المصريين على هذا الاحتفال، وكانت حجتهم الأساسية- وهى قوية فى حد ذاتها- كيف نحتفل بذكرى «الاستعمار»؟

وإزاء هذه المعارضة الشديدة اضطرت الجهات المنظمة إلى تغيير مصطلح «احتفال» إلى «احتفاء»، لكن ذلك لم يهدئ من ثورة هذا التيار، بل خرجت العديد من الكتب والمقالات التى تنتقد بشدة الحملة الفرنسية وترفض «المبالغة» فى تأثيرها على تحديث مصر، واضطرت الجهات المنظمة فى نهاية الأمر إلى تغيير عنوان الاحتفال من الحملة الفرنسية إلى «عام فرنسا فى مصر، وعام مصر فى فرنسا»، ولم يُرضِ ذلك التيار الرافض للاحتفال، وطالبوا بالاحتفال فى عام ٢٠٠١ بمائتى عام على خروج الاحتلال الفرنسى من مصر.

فى الواقع اتسمت النظرة إلى الحملة الفرنسية بالأيديولوجية المحضة منذ البداية؛ إذ نظر إليها البعض، سواء فى فرنسا أو مصر، على أنها ليست «استعمارًا» أو حتى «احتلالًا»، بل إنها «حملة تنوير»! وهو فى الحقيقة مصطلح غريب؛ إذ كيف يرتبط التنوير بحملة عسكرية؟!

وأتذكر عندما بدأت مع أستاذى «أندريه ريمون» تحقيق ونشر وترجمة سجل ديوان الحملة الفرنسية، وهو ما بالغ فى تقديره- الديوان- البعض وأطلق عليه أنه أول «برلمان» فى مصر، أصر الأستاذ ريمون على وصف الحملة بأنها «الاحتلال الفرنسى»، ولم يمنعنا ذلك من ذكر بعض النتائج الإيجابية التى ترتبت على الحملة.

وإذا رجعنا إلى التاريخ سندرك أن فكرة إرسال حملة عسكرية إلى الشرق، وعلى وجه الخصوص إلى مصر، هى فكرة فرنسية قديمة، سابقة على عصر بونابرت. لكن تم إحياء الفكرة من جديد عند نهايات القرن الثامن عشر، فى إطار الصراع بين فرنسا وإنجلترا على المستعمرات. كما تشكلت إرادة سياسية فرنسية لتشكيل إمبراطورية فرنسية شرقية، من أجل قطع الطريق بين بريطانيا وأكبر مستعمراتها فى آسيا وهى الهند. من هنا كان من المهم احتلال مصر للسيطرة على طريق البحر الأحمر. وفى لحظة تاريخية اقترنت هذه الإرادة السياسية بأحلام القائد العسكرى بونابرت القادم من جزيرة كورسيكا، ابن البحر المتوسط، والمولع بتاريخ الإسكندر الأكبر، وحلم تكوين إمبراطورية شرقية. وفى رسالته إلى وزير الخارجية الفرنسى الشهير «تاليران» يحدد بونابرت أهمية الاستيلاء على مصر فى إطار الصراع الفرنسى الإنجليزى، وأيضًا بدايات المسألة الشرقية: «ليس اليوم ببعيد عندما ندرك ضرورة الاستيلاء على مصر، إذا كان فى نيتنا تدمير إنجلترا... إن الإمبراطورية العثمانية الشاسعة التى تموت يومًا بعد يوم تدفعنا بأنه لا مفر من البحث عن وسيلة أخرى يجب أن نتبعها لكى نحمى تجارتنا فى شرق البحر المتوسط».

هكذا يتضح لنا أن الهدف الأساسى من الحملة كان الصراع الاستعمارى وتكوين إمبراطورية شرقية، وليس «حملة تنوير» وخطاب «رسالة الرجل الأبيض» القادم من أوروبا إلى الشرق الهمجى!

وقد أدرك المصريون مبكرًا الطبيعة الاستعمارية للحملة، من هنا تولدت المقاومة الشعبية ضد الحملة، والتى تجلت مظاهرها سواء فى الإسكندرية بقيادة السيد محمد كريم، أو فى القاهرة من خلال ما عُرف بثورتى القاهرة الأولى والثانية، أو حتى المقاومة فى الدلتا ودمياط، وبصفة خاصة المقاومة العنيفة فى صعيد مصر.