رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

علاقات منتهية الصلاحية من قبل تاريخ الصدور

نعيش اليوم في عصر تستطيع الألسنة ترديد مالا تراه الأعين من خطاب مثاليًا رائعًا عن قدسية الزواج، وقيمة الشريك؛ وأسس الأعشاش الدافئة التي تحيطها المودة والرحمة، ويغمرها التفاهم والرضا، وتغلفها الطمأنينة والحوار، وما تردده الألسنة تكشفه الفواجع دائمًا، فأصبحنا نصحو ونغفو كل يوم على مأساة إنسانية جديدة من عنف بين الأزواج والزوجات تؤكده الإحصائيات الدولية والعربية فقد ذكرت دراسة تتبع منظمة الصحة العالمية.
وتعتبر الأضخم والأشمل من نوعها أن  نحو 641 مليون امرأة تعرضن للعنف على يد الشريك أو الزوج بواقع 27% من النساء ما بين عمر 15 و49 عامًا، وقد تزيد مع الأسف النسبة لتصل إلى 31% في منطقة الشرق الأوسط بواقع 53 مليون امرأة وهذا الرقم الضخم هو لا يمثل إلا نسبة في المنطقة نظرًا لحساسية الثقافة لدينا في هذه المسألة، كما أكدت الدراسة أن هذا النوع يعد أكثر الأنواع شيوعًا والأكثر في التصريح والتبليغ عنه عالميًا.
فمما سبق نستطيع أن نرى بوضوح كم الازدواجية التي تعيشها المجتمعات عامة ومجتمعاتنا خاصة، التي تتبنى ثقافة تنشئ عليها الأجيال كافة، فتزرع فيهم السعي نحو الزواج واختيار شريك ليؤنس الحياة، ويرافقنا الرحلة، ويجعلنا أكثر استقرارًا ورغبة في الحياة فقد عاشت أجيالًا ورحلت وهي تنظر للزواج على أنه أكبر هدفًا في الحياة بل، وآخر المفارق في الرحلة الإنسانية.
وحصاد ذلك الزرع لم يكن يومًا ملائمًا للبذرة التي نظن فيها الخير، فما بين بيوت يهجرها الدفء، والتراحم، ويسود أغلبها ثقافة الاستلاب والعنف، وبيوت أخرى قد اتخذت من محاكم الأسرة طريقًا لها، ومنازل قد هجرت للأبد بتسجيل نسبة مرتفعة للطلاق تتفوق على الأعوام  السابقة.
وما بين ارتباط بالأسرة تربينا عليه، وسعينا إليه بأعراس تفتح ذراعيها لحياة جديدة نسجناها بخيالنا سنوات في انتطار، وما بين صدمة في نسب الطلاق التي قد نظن بها أن لا بيت قائم حتى الآن وأن المنازل جميعها قد تركت خاوية على عروشها، وما بين أرقام مهولة للعنف الأسري، والعنف على يد الشريك، التي تهيئ عقولنا لاستيعاب أكبر لانجراف أسرنا في تيار التفكك والانفصال.
تأتي المواقف الضخمة لتضرب بكل هذا عرض الحائط وتؤكد لنا أن النساء قد تتحمل ما لا يطاق واهمة أن ذلك سيجعل السفينة تمر رغم بطش التيار، مستندة في توهمها الزائف على ألسنة حولها تتلفظ بكل ما يهيئ مناخًا أكبر للبطش والإيلام وتربة أكثر خصوبة لبيوت ظاهرها مغلق على أسر وباطنها شراكة قد حللها الزمن من اليوم الأول لتلك العلاقات، وما بين كلمات تتحدث عن خصوصية العلاقات الحميمة التي لا يدركون معنى لها إلا وقت تبرير العنف، وإسكات الضحية وما بين عبارات دينية تشير لأهمية عمار المنازل والسعي وراء بنائها لا هدمها وأخرى قد تتسلل للنساء من زاوية القوامة بمفاهيمها المغلوطة لدينا وطاعة مشوهة لا معنى لها، وما بين تشبيهات ما بين علاقة أكثر بشاعة وشريك أكثر سوء ترضخ الضحايا وتستكين وتكمل بسفنها المتهالكة لتستكمل طريقها في مواجهة أكثر الإعصارات صعوبة ظنًا منها أنها في طريق النجاة وهى تبحر في اتجاه الموت لا محالة.
ومع ذلك فبعض من قوام المجتمع والرأي العام بدأ في التغير مؤخرًا وزاد وعيه ورفضه لهذه الأشكال السامة التي تهين الإنسان، وتوصم تلك العلاقات المقدسة الحميمة، بل وأصبح ينادي بملء ما فيه للضحايا لافتًا أنظارهم لخطورة الطرق التي يسعون فيها، وموضحًا لهم محتوي باين من عنوان كتابه رغم إصرارهم على استكماله، ومناشدًا لهم أن يتركوا ويتخلوا عن تلك البيوت المخروبة قبل حتى محاولة تعميرها.
وأكبر مثالًا لتلك الانتفاضة هو ما حدث في بداية تلك العام بقضية عروس الإسماعلية التي لم يهدأ للرأي العام بالاً من أجل كشف وقائع العرس الذى نشد بالدم وعزف بالضرب والإهانة، بل ولم يكتف فظل صارخًا داعمًا لتلك العروس، مناشدًا الجميع إنقاذها وسحبها من هذا العش الزوجي المفخخ، وظل يستجلب الفتاة ويقويها ويخاطبها بأخذ فأس وهدم ذلك البيت على عقبيه قبل أن ينهار عليها، وخاطبها بأن بعض المنازل يجب أن تهدم بل الهدم هو المشروعية الوحيدة لها.
ولكنها لم تستجب لتلك الأصوات فتعجب المجتمع، وختم قوله برسالة تحذيرية لها، وأن الجميع يتمنى لها السلامة حتي يكشف الله عنها الغمة ويقضي أمرًا كان مفعولً، وها نحن اليوم أمام النهاية المرئية من بداية الطريق، ولكن البعض رفع يده رافضًا دعمها، أو التعاطف مع تلك الضحية متجاهلًا بذلك ما حدث في ثقافة حقنت تحت جلود نسائنا لعقود.
ووشمت بدمهم لسنوات بدعم مجتمعي وعرفي وتحت مرأى ومسمع من الجميع، فما بين تشويه نفسي، وهدم للثقة بالذات، وملاحقتهن بلوم الذات والشعور بالذنب وانعدام القيمة والفائدة في كل موقف عنيف مروا به، بل وجبرهن دومًا على إنقاذ الجاني الذكر، وإشعارهن بالهوان، والحرج إن تطاولوا مدافعين عن أنفسهن، وإضافة لخبرتهن التي تعطيهن رسائل عن ضرر لا متناهٍ إن لم ترضخ، ووصم لأمومتهن، وتشويه لأنوثتهن وخُلقهم، مصاحبًا لذلك ابتزاز اقتصادي، واحتجاز بإرهاب نفسي وإقصاء عائلي يطبع  دومًا ويتوافق مع العنف، وإن تكلمنا بصدق فكثير من بناتنا ما زلن يعشن في حلقة مفرغة ما بين عائلات كتلك وما بين أفكار تحتاج لكيٍّ مؤلمٍ لتنتزع من دمائهن للأبد دون لوم أو خوف أو تأنيب من أنفسهن قبل الغير.
أتفهم كل من يرفض التصالح مع مواقف الضحايا وخذلانهم للداعمين أحيانًا ويتشددون في ذلك من أجل إنقاذ الباقين من بداية الطريق، ولكننا أيضًا يجب أن نكون على نفس القدر من التفهم لأوضاعهم وقساوة ما يمرون به  من استلاب لعقولهم ومشاعرهم وما  يطبع ويترك على أجسادهم، ولاشك أن ينتبه عقل الضحية في أي وقت، وتسعى للجناة خير من أن تترك حالها للهلاك المحتوم، وأن تدرك أنها لم تخلق لتهان في علاقة بجانب شريك يتلذذ بإيلامها، وأن ترك هذا هو خير لها وستر لنفسها وبدنها عن الاستكمال.
وإلى جميع النساء اللاتي ما زلن على متن رحلة اللانهاية لكم منا كل الدعم والحب والتفهم ولكن حاولن بتأمل أن تتدبرن بحكمة أوضاعكن، وأن تستقوين بأنفسكن وبمجتمعكن المناهض لما تعانينهن، تخلين عن التجديف بأنفسكن وأنتن في قمة الإنهاك وانتبهن لشروخ سفينتكن، ولوحن بذراعيكن لإعطاء إشارة واضحة من أجل إنقاذ ما تبقى.
ولتعلمن أنه لا صمود أمام طوفان الزمن إلا بشراعات  متينة وأساس منضود وربان ذي حكمة ورحمة، فإما نجاة ببيان وونس، أو ترك وسير عكس التيار، أو هلاك محتم، ولمجتمعاتنا ارفعوا وصايتكم وأبويتكم المسمومة عن نسائنا، اتركوهن يخترن طريق نجاتهن، فهن أسمى ما تملكون وأغلى من تجرهن  لقيد عائلي مشروخ لتنصروا لنرجسيتكم وسلطتكم المستمدة من عدم، فلترفعوا أيديكم عن النسوة بكل ما تحمله الكلمة من معنى اصطلاحيًا كان أم بلاغيًا، ولتمدوها مفرودة لهن لترفعوهن من غيابة الجب لقبس الطرقات.