رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«عصر مظلم جديد».. كتاب يشرح كيف توسع النظم الاقتصادية الفجوة بين الطبقات الاجتماعية

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب

على مدى القرون الماضية، سادت فكرة التنوير الرئيسية القائمة على أن مزيدًا من المعرفة سيقود بالضرورة إلى عالم أفضل، شهد العالم في خضم ذلك احتفاءً واسعًا بالتقدم التكنولوجي وأشير إلى شبكة الإنترنت باعتبارها "ممرًا للمعرفة يُنير العالم"، وعلى الرغم من هيمنة هذه السردية عن المعرفة والمستقبل، فإن ثمة جانبًا آخر مُعتمًا تتبدى معالمه يومًا تلو الآخر، وهذا ما عني الباحث البريطاني جيمس برايدل بتوضيحه في كتابه "عصر مظلم جديد.. التقنية والمعرفة ونهاية المستقبل"، الصادر حديثًا بترجمة عربية عن سلسلة إصدارات "عالم المعرفة".  

عصر مظلم جديد.. التقنية والمعرفة ونهاية المستقبل

يجادل المؤلف بأن الاعتقاد البسيط بالارتباط الطردي بين المعرفة والحياة المثلى يثبت تهافته بنظرة على الواقع الفعلي وما تحقق على مدى السنوات الماضية؛ فالاتصال الواسع بمستودعات المعرفة، لم يقود إلى تفكير صحيح بل ربما العكس، ولم تدفع غزارة المعلومات سوى إلى واقع مزقه السرديات التبسيطية ونظريات المؤامرة وسياسات ما بعد الحقيقة، يقول الكاتب: في ظل هذا التناقض، تنشأ فكرة عصر مظلم جديد: عصر تتحطم فيه القيمة التي أضفيناها على المعرفة بسبب وفرة تلك السلعة المريحة. 

التغير المناخي

أحد جوانب العتمة التي نتجت عن التطور التقني؛ التغيرات المناخية التي باتت تهدد العالم أجمع. بل إن الكاتب يعتبر أن آثار التغير المناخي متجلية في المشهدين الجيوسياسي والجغرافي، فهو يرى أن الصراع السوري نفسه يرجع جزئيًا إلى التغيرات البيئية بين العامين 2006 و2011 حين عانى أكثر من نصف سكان الريف السوري أسوأ قحط في التاريخ بسبب تغير المناخ، إذ نفق جزء كبير من الثروة الحيوانية والمحاصيل الزراعية، فأعاد الرئيس السوري توزيع الحقوق المائية التقليدية على حلفائه السياسيين وواجه المحتجين بالسجن والتعذيب، ما دفع بعض التقارير الإعلامية لإطلاق اسم "أول حرب مناخية واسعة النطاق في القرن الحادي والعشرين" على الصراع السوري.

ويقول الكاتب: تتمثل الحجة التي يطرحها الكتاب في أن آثار التقانة كتغير المناخ تنتشر على نطاق واسع عبر العالم، وهي تلقي بظلالها بالفعل على كل مناحي الحياة، ربما تكون هذه الآثار كارثية وهي ناجمة عن قصور في فهم المخرجات المضطربة والمتشابكة لاختراعاتنا، كذلك تربك ما أصبحنا نتوقع على نحو ساذج أنه النظام الطبيعي للأشياء. 

من جهة أخرى، يشير إلى تقرير نشره مجلس العلوم والتقانة الإنجليزي عام 2009 يتوقع ارتفاع درجات الحرارة صيفا وشتاء وارتفاع مستوى سطح البحر وتصاعد حدة العواصف واندلاع النيران في الغابات وقحطا ومزيدا من الفيضانات وموجات الحر وتغير توافر الموارد بسبب التغير المناخي، وفي هذا الصدد يرى الكاتب أن الحوسبة ضحية وشريك في تغير المناخ؛ فمثلما تعد مراكز البيانات في العالم مسؤولة عن اثنين بالمائة من إجمالي الانبعاثات العالمية الذي من المتوقع زيادته، فإن البنية الرقمية تأثرت سلبًا جراء هذا التغير الحاد في المناخ.

تعزيز اللا مساواة

يبين المؤلف أن التكنولوجيا تتعاون مع التحديات التي نواجهها في عالم اليوم في إنتاج نظام اقتصادي يوسع الفجوة بين الأثرياء والفقراء ويقود إلى انهيار الإجماع السياسي والمجتمعي في العالم، وهو ما يؤدى إلى تزايد النزعات القومية والانشقاقات الاجتماعية والصراعات الإثنية والحروب بالوكالة.  

ويضيف: "التقانة في الواقع ما هي إلا محرك رئيس للا مساواة في أغلب القطاعات، فالتقدم الذي لا هوادة فيه الذي تشهده الأتمتة تهدد على نحو متزايد العمالة البشرية في جميع المجالات. لا توجد شبكة حماية لأولئك الذين جعلت الآلات من مهاراتهم أثرا من آثار الماضي، وحتى هؤلاء الذين يبرمجون الآلات ليسوا بمنأى عن ذلك الخطر. ذلك أن عددًا متزايدا من المهن يتعرض للهجوم مع ازدياد إمكانيات الآلات وتعزيز الذكاء الاصطناعي لهذا الهجوم، ويساعد الانترنت على تشكيل هذا المسار نحو اللا مساواة حيث تسفر آثار الشبكة والتوافر العالمي للحدمات عن نشأة سوق الفائز فيه يربح كل شيء وأحد مفاتيح اللا مساواة المعززة هو عدم شفافية النظم التقنية نفسها". 

تركيز السُلطة

وعدت التكنولوجيا بمعرفة أكثر رحابة تصل للجميع ويستفيد منها الأطراف كافة، لكن على أرض الواقع استُعملت التكنولوجيا من دون مساواة، ما أدى إلى تركز السلطة والفهم في فئة بعينها تتحكم في قواعد اللعبة وتوجهها، وهو ما يعتبره الكاتب "استبدادًا تمارسه التكنولوجيا "موضحًا: " التقانة تركز السلطة في أيدي عدد يتضاءل باستمرار ممن يفهمونها ويتحكمون فيها. وثمرة الاستثمار الشامل في المعالجة الحوسبية للبيانات والبضائع والبشر هي رفع منزلة الكفاءة فوق جميع الأهداف الأخرى". 

ويشير إلى أن تاريخ تركيز السلطة الذي مارسته التكنولوجيا يبدأ من مصانع الغزل والنسيج إلى المعالجات الدقيقة، فهذا "ليس مجرد تاريخ آلات فائقة البراعة تحتل شيئًا فشيئًا مكان العمال من البشر بل أيضا قصة تركيز السلطة في أيد أقل، وتركيز الفهم في عدد أقل من الرؤوس". 

ويتابع: "لقد شكّلت الأدوات المتاحة لنا طريقة تفكيرنا في العالم، وتضم هذه الأدوات الإطار الاجتماعي والسياسي بأكمله الذي يدعم البحث العلمي بدءًا من التمويل الحكومي والمؤسسات الأكاديمية وصناعة النشر إلى بناء التقانات والبرمجيات التي تخفي نفوذا اقتصاديا لا مثيل له ومعرفة استثنائية لوادي السيلكون والشركات التابعة له"، وبالتالي لا تسهم التكنولوجيا في تأطير الثقافة وتشكيلها فقط بل تتعدى لك إلى رسم وصياغة ما يتحقق في نهاية الأمر.

المراقبة

على الرغم من وعود الحرية الكاملة في ظل التقدم التكنولوجي، فإن الواقع أثبت أن التكنولوجيا كانت أداة لتعزيز المراقبة الجماعية العالمية؛ إذ تحسنت قدرة الحكومات على التجسس على شعوبها وأعدائها بفضل الشبكات وقوة معالجة البيانات، فالمعرفة الحوسبية تتطلب المراقبة لأنها لا تنتج إلا من خلال البيانات التي تتوافر لها بشكل مباشر.  

يوضح الكاتب: "المعلومات والعنف متصلان كليا وبشكل معقد، وتسليح المعلومات يتسارع من خلال تقانات تزعم أنها تؤكد السيطرة على العالم، والشراكة التاريخية بين المصالح العسكرية والحكومية والاقتصادية من جانب وتطوير التقنيات الجديدة من جانب آخر تجعلان هذا الأمر واضحًا"، واصفًا زمننا الحالي بأنه "زمن بالغ العتمة" إذ تستخدم فيه البني التي شيدت لتوسيع نطاق اتصالاتنا و خطاباتنا ضدنا بطرائق منهجية و مؤتمتة. 

الآلة بديلًا

يقول الكاتب: الحوسبة عموما هي اختراق معفي ينقل سيرورة اتخاذ القرار والمسؤولية إلى الآلة، ومع تسارع وتيرة الحياة تتغلغل الآلة وتتولى مزيدا من المهام المعرفية وتعزيز سلطتها بغض النظر عن التبعات، نحن نجدد من فهمنا للعالم كي نستوعب بصورة أفضل الإنذارات المستمرة والطرق المعرفية المختصرة التي توفرها النظم المؤتمتة، هكذا تحل الحوسبة محل الفكر الواعي ويغدو تفكيرنا أكثر شبهًا بالآلة أو لا نفكر على الإطلاق.

ويلفت النظر إلى جانب آخر ذي صلة، وهو ما ينتقل إلى الذكاءات الناشئة من أخطاء الماضي وعنصريته ويصير جزءًا منها، فالإنسان الذي يضع بيانات من الماضي في الذكاء الاصطناعي يعمل على تمرينها على ما يسميه الكاتب "مخلفات معرفة سالفة تؤدي إلى تشفير البربرية داخل المستقبل".

ويشدد الكاتب على أهمية التفكير في فرص الذكاء البشري وحدوده، وهو تفكير ينبغى ألا يأمل في تجاهل ما آل إليه الذكاء الاصطناعي بل عليه في المقابل أن يفكر بطريقة جديدة في التقانات الجديدة ويمارس التعاون المدروس الواعي، ويسعى للتأكيد على ممارسات العدالة الشاملة.