رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أجمل ما فى الدنيا.. أكتوبر اللى انتقم ليونيه

لم يصبح فؤاد حداد سيدًا للشعراء بالصدفة.. ولم يتخذه بعضهم والدًا صدفة.. كلماته الحادة القاطعة الجازمة أحد أهم الأسباب التى تجعلنى أمنحه كل الألقاب بنفس راضية وأشعر بأنها لا تكفى.

ونحن نحتفل بأعياد وانتصارات أكتوبر يحاورنى فؤاد حداد.. وكلما غفوت يزغر لى بالمسحراتى ويطاردنى بأغنياته التى لم تغب أبدًا عن بالى.. وها هو مجددًا رغم كل تلك الحفاوة التى بدت فى صفحات المصريين جميعًا يقتحم الفضاءات جميعًا ليخبرنا «أجمل ما فى الدنيا أكتوبر اللى انتقم ليونيه».

لا يزاحم هذا الحضور الطاغى لفؤاد حداد فى ذاكرتى كلما جاءت سيرة أكتوبر سوى حكايتين وأغنية، أما الأغنية فجميعكم يعرفها «حلوة بلادى السمرا»، والسر فيها ليس لحنها البديع، ولا صوت وردة.. لكنها رغبة عبدالرحيم منصور، شاعرها الذى ترك مبنى الشريفين بعد ٤٨ ساعة من الإرهاق، ليذهب إلى بيته لينام قليلًا، لكنه لم يستطع، فقد حاوطته صورة والدته التى تركها فى الصعيد بعد أن وعدها أن يعود إليها ناجحًا.. لكنه لم يفعل، ولم يعد إلى «دندرة»، لكنه اليوم فقط يشعر بأنه يريد العودة إلى الصعيد إلى حضن أمه الذى افتقده لسنوات، ليمسك بالربابة ويمر أمام الجميع فى قريته معلنًا انتصاره بالغناء حتى يصل إلى باب دارهم.. ويرتمى فى أحضان هذه الريفية المبدعة التى سوت وليدها مثلما تسوى العيش الشمسى على حطب أعواد القطن فى فرن الخبيز.

كنت أقول لصديقى ونحن نجلس فى أحد مقاهى وسط البلد تلك القصة بمناسبة ذلك القبول المدهش لهذه الأغنية وصاحبها.. فإذا بدمعة تسقط من عين صاحبى جعلتنى أتوقف عن الكلام.

استغربت.. الأجواء كلها أفراح.. والكلام عن الموسيقى والغناء، فما الذى يبكى صاحبى الذى اقترب من الستين ولم أشاهده يومًا يبكى.. حاولت أن أقترب «بدعابة».. قلت: «شكلك مش من الشرقية ولا تعرفها وعاوز ما تدفعش الحساب.. وكأنكم لا عزمتوا القطر ولا حاجة!»، فإذا به يهذى كالأطفال.. كأننى دست على جرح قديم.. وبعد أن هدأ بدأ يحكى..

«الشراقوة اللى عزموا القطر حقيقة مش نكتة.. وعلى فكرة أنا شفت ده بعينى.. هما كمان عزمونى»، ولأول مرة أعرف أن صاحبى ليس من أبناء الشرقية، وإن عاش فيها لسنوات لكنه من أبناء الإسماعيلية.. تركته يكمل القصة..

«فى اليوم ده.. كنت بلعب زى كل يوم فى الشارع مع صحابى.. رجعت بعد أذان العصر ألاقى أمى بتبكى وأختى اللى أصغر منى بسنتين بتبكى وعزال بيتنا كله فوق عربية كارو.. وأبويا بيزعق علشان كانوا بيدوروا عليا وهما هيمشوا.. يمشوا فين؟.. مش عارف.. إيه اللى حصل؟.. معرفش.. فجأة فى الميدان لقيت عشرات الأسر من جيرانا والناس اللى فى الشارع جنبنا راكبين على عربيات شبه اللى إحنا وعزالنا فوقها.. كل دول وعشرات تانين زيهم اتجمعوا قدام محطة القطر.. أبويا ركبنا القطر مع العزال البسيط ورجع ماجاش معانا.. أول مرة أبعد عنه.. كان يغيب لحد آخر اليوم بس آخر اليوم أترمى فى حضنه وأنام.. دى أول مرة أعرف يعنى إيه غربة.. يعنى إيه تبقى وحيد.. بكيت.. أمى زعقت فيا: (استرجل)! وأنا مش فاهم حاجة.. بعد ييجى ساعتين.. القطر وقف فى محطة قرية من قرى الشرقية اسمها أكياد.. كان المغرب بيأذن وفجأة لقينا أهل البلد داخلين القطر بصوانى الأكل.. أمهات زى أمى وعيال زى حالاتى بيطبطبوا علينا ولازم نفطر من أكلهم لأننا كنا فى رمضان.. دى الحكاية.. حكاية المهجرين من أرض القنال اللى عاشوا حرب الاستنزاف ومارجعوش غير فى ١٩٧٤ بعد النصر.. عشنا فى الشرقية فى بيوت قرايبنا هناك.. وفيه ناس عاشت فى المدارس اللى اتحولت لمأوى للأغراب»..

وأكمل صاحبى وهو يبكى مجددًا.. «اللى ماعاشى الأيام دى مايعرفش يعنى إيه حرب.. ولا يعرف يعنى إيه انتصار». سكت صاحبى.. فاقتحمنى الخال عبدالرحمن الأبنودى وهو يحكى قصة القرية التى خرج أهلها جميعًا فى يوم مشابه.. من قرية فى السويس إلى الشرقية أيضًا.. ترك الأهل بيوتهم خالية إلا من «الكلاب» وبعض الرجال الذين قرروا البقاء والانضمام للفداوية.. ولأن البيوت لم يعد بها بشر لم تجد الكلاب ما تأكله «جاعت» فخرجت إلى أول الشارع.. فلم تجد شيئًا ثم خرجت إلى كرم نخيل وجدت فيه بعض سقط البلح.. وظلت هناك.. ثم تذكرت أن الكرم ليس بيتها، كل كلب أكل البلح المتساقط ثم عاد إلى منزله لينام.. «يغمض عينًا ويفتح الأخرى».. بعد الانتصار عاد أهل القرية ليجدوا بيوتهم كما هى.. والكلاب التى صارت تنبح فرحًا كل واحد منها يجرى خلف صاحبه يلعق أقدامه، ويقفز ليحضنه وربما ليقبل رأسه أنه عاد.

ربما توجعنا مثل هذه الحكايات.. لكننا لو لم نسمعها ما عرفنا قيمة ذلك «المعنى» الذى قصده عمنا فؤاد حداد وهو يكتب «أكتوبر اللى انتقم ليونيه» لم يكن انتقامًا عاديًا أو ثأرًا لكرامة مثلما يحلو للبعض أن يردد.. أهل هذه القرى وحدهم يعرفون ذلك.. يعيشونه كلما هلت روايح «أكتوبر».

هى حكايات موجعة نعم.. لكنها تزغدنا فى نومنا لتذكرنا «أين كنا»، وماذا تعنى لنا هذه «الأرض».. إننى أدعوكم ليس فقط لتذكر هذه الحكايات بل وترديدها.. الأجيال الجديدة ربما لم تسمع بها.. ربما تعرف أن الشراقوة عزموا القطر.. لكنها لا تعرف «أكياد»، ولا هؤلاء الذين ظلوا بعيدًا عن نخيلهم وطيورهم وبيوتهم وسترهم ست سنوات كاملة حتى جاء أكتوبر.. سلام على من ذهبوا لنبقى.. سلام على كل دمعة طارت على خد أم فقدت ابنها.. لنغنى نحن أغنية النصر.