رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«من النهضة إلى الاستنارة».. سيرة منقذى مصر من توابع التخلف العثمانى

من النهضة إلى الاستنارة
من النهضة إلى الاستنارة

تدفعنا الحاجة لمعرفة الطريقة التى يمكن بها النمو والتقدم إلى العودة لتتبع مدى تغير الحركة الثقافية والفكرية، التى لا تنفصل عن التغير الاجتماعى والسياسى، وبالتالى تعتبر قراءة المشهد الثقافى والفكرى لمصر فى تاريخها الحديث شيئًا فى غاية الأهمية، للوقوف عند نقاط التحول والتغير التى طرأت على الشخصية المصرية، والجهود التى بذلها من سبقونا من أجل نهضة بلادنا وتقدمها، ولتأكيد أن أى تقدم اجتماعى وسياسى واقتصادى قائم بالضرورة على تقدم فكرى وثقافى.

عند قراءة كتاب «من النهضة إلى الاستنارة» للدكتور أحمد زكريا الشلق، الصادر عن دار «الكرمة» للنشر، يتتبع ويتعرف القارئ بل ويلتقى بكل من شكلوا وكونوا ورسموا لوحة الثقافة، ليست المصرية فقط ولكن العربية أيضًا، فلا شك أن تأثير الطهطاوى ومحمد عبده وغيرهما من أعلام الثقافة، الذين يتناول الكتاب سيرتهم، قد تجاوزت آثارهم حدود الثقافة والمجتمع المصرى، لتكون أفكارهم نواة وبذورًا لكل حركة تقدم وتنوير ونهضة حقيقية فى أى بلد عربى.

فى أول سطر داخل الكتاب بالمقدمة، يقول الكاتب إنه كان من بين أحلامه تأليف كتاب عن تاريخ الفكر المصرى الحديث والمعاصر، وأن هذا الحلم كان يراوده منذ كان طالبًا، وهو الحاجة لمعرفة متى بدأ الفكر المصرى ينهض من تخلف القرون الثلاثة الأولى للحكم العثمانى لمصر؟ 

وللإجابة عن هذا السؤال الذى له علاقة وثيقة بحاضرنا بكل ما فيه من أزمات ومشاكل فكرية قد تعود إلى هذا الزمن البعيد، يعود الكاتب إلى بدايات القرن السابع عشر، لنرى كيف كان وضع الثقافة آنذاك، ونتعرف على واحد من الذين حاولوا التغيير والنهضة بالثقافة فى تلك الفترة، وهو الشيخ حسن العطار «١٧٦٦-١٨٣٥».

ويوضح الكاتب أن «العطار» كان «من أعلام فترة التحول والانتقال إلى نهضة القرن التاسع عشر ومن أبرز صناعها، فقد أثبتت حواشيه ومقالاته فى علم الكلام كيف أنه كان سابقًا لعصره، لا يتفق تفكيره مع الفكر السائد فى زمنه، وكشفت أعماله عن عقل يتمتع بدرجة عالية من التنظيم».

ولما كان الدين هو المهيمن على شكل العلم الذى يتم تقديمه داخل مصر، وبالتالى هو المهيمن على شكل الثقافة والفكر، ورجاله هم المكونون لهذه الثقافة، مسّ ما كان يقدمه «العطار» من نظرة مختلفة للدين ودوره قضايا فكرية تتصل بالحرية والمشكلات السياسية وشكل الحياة الاجتماعية فى زمانه.

وعلى الرغم من أن ثقافة «العطار» آنذاك كانت تمثل ثقافة الأزهر واتجاهاته العلمية والفكرية، كان يرى ببعد نظره وسعة أفقه وشدة تطلعاته أنه ينبغى أن يتجاوز هذه الدائرة إلى دائرة أوسع تلائم العصر، ومن هنا رأى أن يتجاوز شيوخه وأساتذته بالقراءة الواسعة فى الكتب، فرأى فيها من المعرفة وثراء الفكر عالمًا أرحب وأوسع، ثم لم يعد يكتفى بالكتب العربية واتجه إلى قراءة الكتب المترجمة فى أوائل عصر النهضة فى القرن التاسع عشر، فجمع بين ثقافة الشرق والغرب.

وكان من الطبيعى لشخص رافض لشكل الثقافة والفكر الذى يساعد على الجمود ويقدمه الأزهر، كذلك رافض لشكل العلوم التقليدية التى لا تساعد على التفكير والإبداع، بل على الحفظ والنقل- أن يميل إلى كفة الآخر الذى يملك العلوم المتطورة والنافعة، حتى لو كان هذا الآخر مستعمرًا أوروبيًا.

لذا قال على مبارك عن «العطار» إنه «اتصل بناس من الفرنساوية، فكان يستفيد منهم الفنون المستعملة فى بلادهم، ويفيدهم فى اللغة العربية، ويقول إن بلادنا لا بد أن تتغير أحوالها، ويتجدد بها من المعارف ما ليس فيها، ويتعجب مما وصلت إليه تلك الأمة الفرنسية من المعارف والعلوم وكثرة كتبهم وتحريرها وتقريبها لطرق الاستفادة».

وكان «العطار» من أعمدة الحركة الثقافية التى أسس لها محمد على فى نهضته، لكن يبدو وبالرغم من كل ذلك أنه كان من الذين لا يحبون خوض المعارك، فقد وافق محمد على فى نظرته تجاه الأزهر ورجاله، فمحمد على بالرغم من قوته، كان يخشى الاقتراب من إصلاح الأزهر حتى لا يغضب المشايخ. بل إن آراء «العطار»، والتى يأتى بها الكتاب تجاه المرأة، تحمل نظرة رجعية للغاية لا تختلف عن نظرة أى رجل دين محافظ.

لكن يحسب لـ«العطار» محاولاته للتغيير وسط عالم يسوده الجمود، وأنه كان الأساس لظهور جيل جديد من المجددين، فهو أستاذ رفاعة الطهطاوى، الذى سيكون المثقف والتنويرى الأكثر شهرة وتأثيرًا فى التاريخ العربى، وتناول الكتاب شخصيته وسيرته بالتحليل، فى الفصل الثانى.

ويبين الكتاب أنه «بجانب نظرة رفاعة الطهطاوى لشكل العلوم، التى طالب بضرورة تغييرها لتواكب حركة التقدم فى العالم، وبالرغم من آرائه المتقدمة التى كانت بمثابة قفزات هائلة فى التاريخ الفكرى المصرى تجاه دور المرأة والتنبيه على ضرورة تعليمها وتثقيفها، نرى أيضًا شجاعته فى التصدى والوقوف أمام شكل نظام الحكم فى زمنه».

فبالرغم من توافق رؤية «الطهطاوى» مع الحاكم الذى ساعده فى توصيل أفكاره، وهو محمد على، لم يمنعه هذا من رفض الشكل الذى تدار به الأمور فى مصر، وشكل شرعية الحاكم، حتى لو بشكل غير مباشر، وربما هذا سيتسبب فى نفيه بعد رحيل محمد على، حيث عودة الأنظمة المستبدة التى تستغل الجهل والفقر المسيطرين على الأوضاع الاجتماعية لتأكيد النفوذ والهيمنة.

فى الفصل الثالث يتناول الكتاب سيرة الشيخ حسين المرصفى، ويقدم الكاتب تحليلًا مهمًا لـ«رسالة الكلم الثمان»، التى تناول فيها «المرصفى» معنى الوطن، ودور الحكومة، وشرح مفاهيم مثل الظلم والسياسة والحرية، وهى مفاهيم كان الأغلبية من العوام فى مصر على جهل بها. لكن ما يجب التوقف أمامه أن «المرصفى» طالب المواطنين وقتها بـ«استعمال عقولهم لتمييز المنفعة، وصيانة الأبدان، والمبادرة بإصلاح الخلل، والاسترشاد بعقلاء الأمة، والتعاون فى المهمات ولخير الوطن، ومعرفة الأشياء وخواصها واستعمالاتها، والغيرة لاكتساب المعرفة واتساعها، ومسابقة الأمم فى الرقى، وعدم البطء والاستنامة لكواذب الأمانى».

ثم ينتقل الكتاب لسيرة الإمام محمد عبده، وهو الغنى عن التعريف والمعروف بدوره الكبير فى إثراء الثقافة، وتأثيره فى الفكر المصرى الحديث، لنتعرف على علاقته بأستاذه الشيخ المجدد أيضًا جمال الدين الأفغانى، ونرى كيف بدأ الإمام كتابة المقالات الفكرية، وكيف كان يحاول- كما فعل كل من سبقوه- الابتعاد عن الفكر الدينى المهيمن وقتها، بل حاول نقل تأثره بما سمع وقرأ وعُرض عليه من كتب وعلوم أجنبية مختلفة.

لكن ربما المميز فى سيرة الإمام هو أنه كان من أوائل المناضلين والمشتبكين مع الواقع السياسى والاجتماعى، ومواكب ومساهم فى كل التغيرات على كل الأصعدة، فنراه يشارك فى ثورة عرابى، ليتم نفيه، ثم يتوسط له اللورد كرومر بنفسه عند الخديو توفيق للإفراج عنه فيعود، لكنه يواصل النضال من جديد لتحرير العقل المصرى من شتى القيود التى فرضت عليه، من جهل وخرافة وجمود.

نراه ينادى بقلمه وكتاباته ويعمل بجهد على أرض الواقع بأفعاله لإنقاذ العقل من الخرافات والأوهام والأساطير، وجعله مرجعًا أساسيًا، وتحرير المجتمع من المحتل أو من سيطرة طبقة بعينها على طبقة أخرى، مع الدعوة إلى المساواة والعدالة الاجتماعية.

وهنا نقطة يجب التوقف أمامها، فمحمد عبده كما ينادى بضرورة الشعور بقيمة الوطن، والتصدى لكل غازٍ ومستعمر، ينادى بضرورة التخلص من الجهل والخرافة، لأنهما من الأسباب التى تدفعنا للخضوع للمستعمر، كما أنهما فى نظره نوع آخر من الاستعمار.

نرى أيضًا رفض الإمام أشكال الوصاية الدينية التى يمارسها الأزهر ورجاله، ليتحكموا ويهيمنوا على عقول العوام، فنراه يقول إن «الله لم يجعل لأحد الحق فى مراقبة دين وأفعال أحد من العباد، ولم يجعل الله لأحد سلطانًا على عقيدة الآخر، فليس فى الإسلام ما يسمى عند قوم بالسلطة الدينية بوجه من الوجوه».

ويؤكد الإمام أن «الدين فى جوهره وكما يراه هو لا يتعارض مع العلم، ولا يتعارض مع مفاهيم الدولة المدنية الحديثة التى تحتضن الجميع، وتعرف المواطنة، وقيم العدالة والحرية والمساواة، وأن الدين ينادى بالعمل ومواكبة العلوم الحديثة التى تعود بالنفع على الإنسان، والدين يرفض الجهل والجمود والتخلف».

ويدور الجزء الأخير من الكتاب حول قراءة المشهد الثقافى المصرى فى القرن العشرين، وما حققه المثقفون من انتصار كبير على قوى التخلف، وما حققته الثقافة من خطوات جادة عادت على المصريين بالنفع والتقدم فى مختلف العلوم بعد افتتاح الجامعة.

ويرصد الكتاب جهود كل من لطفى السيد وقاسم أمين وأحمد فتحى زغلول، فى إثراء الحياة الثقافية والفكرية المصرية، ومحاولاتهم للتقدم التى لحقت بجهود ومحاولات من سبقوهم، وبجهود كل من حاولوا التغيير والاجتهاد من أجل تنوير العقول ومن أجل نهضة حضارية جديدة.