رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

نحن لا نشرب الشعر.. نحن لا نأكل الأغانى

لأسباب لا دخل لى بها.. وجدتنى منذ سنوات طويلة مهتمًا بالشعر والأدب والفنون غارقًا فيها إلى ما لا نهاية، لا أعرف مجالًا آخر أتمدد فيه.. ولما صارت الكتابة مهنتى وأكل عيشى لم أفكر طيلة ثلاثين سنة فى مجال آخر.. ربما كنت مخطئًا حينما سايرت هواى وجئت من آخر الدنيا وحيدًا غريبًا ألهو بما فعلت يداى.. لكنى فى كل الأحوال كنت سعيدًا بما أفعل.. أحزن وأغضب وأبكى وحدى.. لكنى سعيد.

صارت الكتابة دنيتى الصغيرة.. لا أخرج منها إلا قليلًا.. وكنت أظن أن كل صاحب مهنة هو كذلك مع رفاق مهنته.. حتى حلت بنا توابع هذا الربيع الذى لم يكن فى يوم من الأيام عربيًا.. تغيرت الأحوال كثيرًا.. وراح البعض منا بإرادته أو رغمًا عن إرادته يبحث عن مجالات أخرى «يجرب حظه فيها».. وهناك من استطاع أن يفعلها ويبتعد تمامًا عن مجاله الأصلى، ويغرق إلى آخره فى عمله الجديد، بعضهم نجح والبعض الآخر عاد على عقبيه.. وبعضهم لم يستطع العودة ولم يظفر بالنجاح.

وحدنا أهل الكتابة لم نفعل ذلك.. ليس حبًا فيها.. ولكن لأننا لا نعرف غيرها، لا نملك رفاهية البُعد عنها والتعلم من جديد.. مع أنه ليس عيبًا.

بعض زملائى ترك مهنة الصحافة وراح يعمل فى تجارة المواشى.. أحدهم ذهب ليستخدم سيارته فى إحدى الشركات الجديدة فى مجال خدمة المواصلات، وثالث باع كل ما يملك فى القاهرة و«خد عياله وعاد إلى الصعيد» يزرع الأرض التى ورثها عن والده مكتفيًا بعائد بسيط لما ادخره من سنوات قضاها فى الخليج.. حيث كان يعمل فى إحدى دور النشر قبل أن يعود ليحاول ممارسة مهنته لكنه لم يستطع استيعاب ما جرى من تغيرات فى المهنة وأحوالها فقرر الرحيل.. جميعهم غير سعداء.. لكنهم لم يكونوا سعداء أيضًا فى حالهم الأول.

موجات كثيرة من أبناء جيلى ممن قاربوا على سن المعاش يودون لو تركوا هذه المهنة.. لكن السن والأمراض الخمسينية المزمنة التى توطنت لا تساعدهم على اتخاذ قرار الهجرة إلى مهنة أخرى.. فاستجابوا مرغمين لقضاء ما تبقى من أيام على مضض.

وفى الشهور الأخيرة.. تعالت أصوات زملاء المهنة الذين يحذرون الجيل الجديد من العمل بالصحافة والإعلام عمومًا.. فما بالك بمن يفكر، أو انتبه، فى اقتحام عالم الثقافة والكتابة والتفرغ لموهبته إن وجدت.

لم أكن أحب أن أتعرض بالكتابة لما جرى فى عالم الثقافة والإعلام.. لأننى أؤمن بأن الجميع تضرر منذ بداية الألفية الجديدة بما يحدث فى العالم.. والضرر الأكبر وقع على من يعيشون هذه اللحظة فى عالمنا العربى.

الآن.. الأمور تبدو أكثر قتامة.. صرخ الرجل الذى يجلس بجوارى على المقهى وأنا أحادث شاعرًا مصريًا مجيدًا فرح باختيار محافظة الوادى الجديد عاصمة للثقافة المصرية للعام المقبل ومقرًا لانعقاد مؤتمر أدباء الأقاليم.. رحت أحكى بشغف عن ذلك المؤتمر الذى انعقد لأول مرة فى أسوان منذ ما يزيد على ثلاثين سنة وكان سببًا رئيسيًا فى أن أحب هذا العالم.. وقتها كنت طالبًا صغيرًا لا أزال فى الثانوية العامة.. وذهبت ممثلًا لمحافظة سوهاج مع الشاعر د. عبدالناصر هلال وكان لا يزال طالبًا بالجامعة.. قدمنى الناقد الكبير د. محمد السيد عيد لألقى أشعارى وسط آلاف المواطنين من أهل نصر النوبة.. كان استقبالهم لما أكتب وحفاوتهم بذلك الصبى ودهشة الوزير فاروق حسنى وأدباء مصر الكبار وشعراء قاطعةً فى تحديد مسارى ووجهة أيامى كلها.. وتحدث صديقى بصوت عال عن منزل المهندس حسن فتحى فى الوادى الجديد الذى احتلته العقارب والثعابين لسنوات.. عن خصوصية ثقافة هذه المنطقة المهمة من مصر.. عن ضرورة وضع هذه البلاد التى تمثل مستقبل الغذاء فى مصر والسياحة أيضًا على الخارطة.. كان صوتنا عاليًا فانتبه الرجل ثم اقتحم مجلسنا وهو فى حال غضب «يا أساتذة نحن لا نشرب الشعر.. يا أساتذة نحن لا نأكل الأغانى».. صمتنا قليلًا.. حاولت أن أتحدث عن أهمية الثقافة وبناء الإنسان وسحر الموسيقى وقدرتها على العلاج النفسى وتأهيل البشر روحيًا وتهذيب حياتهم فوجدتنى عاجزًا عن الكلام.. ليس لأن الرجل استمر فى وجعه الذى نط فى عيوننا وفى آذان كل من هُم بالمقهى.. ولكن لأننى وبصدق ولأول مرة منذ سنوات أجد كل ما تعلمته وحفظته وتبنيته عاريًا أمام حقيقة الأزمة الاقتصادية التى نعيشها.. الرجل لم يقل إنه يكره الشعر.. بل قال إنه يحفظ السيرة الهلالية ويحب أشعار ابن الفارض والحلاج حين يغنيها الشيخ ياسين التهامى.. وإنه كان يقرأ الروايات من أجل خاطر طه حسين ونجيب محفوظ.. الرجل يقرأ ويعرف ويتابع.. ولكنه يرى أن ذلك كله لم يعد ضروريًا الآن.

اعتبرنا الرجل مشاركين فى صنع مأساته.. ومأساة الجيل الجديد من أبنائنا.. اعتبرنا جميعًا فى الإعلام «سلة واحدة».. لكنه يرى أن الأولوية الآن لأشياء أخرى.. يرى أنه واجب علينا أن نشرح للناس رجالًا ونساء كيف يقتصدون.. كيف يجدون فرصة عمل جديدة.. كيف يدبرون أحوالهم.. يطلب منا خارطة للأولويات.. يطالبنا بدعم كل سيدة شريفة تخرج لبيع الخضار فى السوق لتوفر لأطفالها ثمن كيلو سكر وزجاجة زيت.. كل امرأة تجمع القرش على الآخر لتدبر مصاريف المدارس بدلًا من الجحافل التى انطلقت على السوشيال والفضائيات لتحرض النساء على خراب البيوت.

كان الرجل يتحدث بحب عن دور يجده واجبًا على أهل الثقافة والإعلام.. لا يزال الرجل يعول على هؤلاء فى تنظيم حالة الأخلاق.. وترميم منظومة القيم فتغيرها.. من وجهة نظره وربما كان محقًا- لا يمكننا أن نتجاوز هذه الأيام الصعبة- صمت قليلًا ثم عاد ليسأل: ما قيمة حفل غنائى لمحمد رمضان الآن؟، هل سيساعدنا على تشجيع السياحة؟!

السؤال الاستنكارى الذى طرحه الرجل لا ينتظر الإجابة عنه.. لذلك أكمل.. «كفاية شعر.. كفاية أغانى».. نحن لا نشرب الشعر .. نحن لا نأكل الأغانى»، ثم قام واقفًا دون أن يترك السلام وربما نسى أن يدفع حسابه لصاحب المقهى الذى وقف مذهولًا هو الآخر من حرقة الرجل وحديثه الذى لم يتعوده.. وبدا لو أنه يريد أن يعتذر لنا.. فأكمل هو الآخر: «يا بيه الناس تعبانة.. الراجل يمكن مش عارف يفضفض بالكلمتين اللى واجعينه فى البيت.. رماهم فى وشكم ومشى.. معلش هتاخدها حسنات والله.. اللى يقدر يسمع حد اليومين دوول بس.. يسمعه هياخد ثواب».