رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عزلة المثقفين


المتابع لحركة المثقفين المصريين يكتشف أنهم يكلمون ويناقشون ويحاورون أنفسهم , وفى جلساتهم الخاصة يجادلون بعضهم البعض , حتى أصبح خطابهم المعلن موجه إليهم فقط دون غيرهم , وانحصرت دائرة علاقاتهم فى معارفهم من المثقفين ولا يتخطونها إلى علاقات أخرى مع الآخرين , حتى فى كتاباتهم يخاطبون بعضهم البعض , ويتحدثون فى موضوعات لا تهم أحدا غيرهم . ولم يعد لشئون المواطن الآخر واهتماماته نصيب مما يكتبون . وبذلك تحولوا إلى مجموعة تجلس فى غرفة مغلقة يتكلمون ويتجادلون دون أن يتعدى صوتهم الحجرة التي يجلسون فيها .

وقد حكى لنا أحد المشاركين فى ملتقى الرواية العربية , وهو من النقاد المعروفين أنه عند وصوله لمطار القاهرة , ذكر لأحد رجال الأمن في المطار , انه سيحضر ملتقى للرواية العربية فى القاهرة الذي ينظمه الدكتور جابر عصفور . وأكتشف الناقد أن رجل الأمن لا يعرف شئ عن ملتقى الرواية ولا عن جابر عصفور نفسه . بل واخطأ في نطق اسمه . كما ان السلطة تتعامل مع المثقفين باعتبار أنهم فئة تجلب لها المتاعب .

فلم يتمكن المثقفون المصريون من إقامة الجسور مع مؤسسات الدولة الأخرى , وعلى سبيل المثال , علاقاتهم بالمؤسسات الشعبية والسياسية والتشريعية والقضائية والدينية والتنفيذية معدومة , ولا تواصل أبدا بين تلك المؤسسات والمثقفين . ومن الواضح أن هناك قطيعة بين المثقفين وتلك المؤسسات .

لقاءات القيادات السياسية مع المثقفين انحصرت فى وجوه مكررة منذ اكثر من عشرين عاما , وكأن مصر خليت إلا منهم , ولم يحدث أبدا أن تحاورت القيادة السياسية مع المثقفين إلا من خلال بضع أسئلة تتكرر كل عام ومع نفس المحاورين , ولم تتمكن اي قيادة سياسية من الانفتاح على غيرهم . وكل تغيير يحدث فى تلك الأوجه , إنما يتم بدلا من الذين وافتهم المنية فقط . لقد أصبحت أجيال جديدة من المثقفين تنتظر دورها فى المشاركة باعتبارها إحدى الأدوات فى تشكيل الوجدان المصري , وطال انتظارهم , وأصابهم اليأس من عدم إتاحة الفرصة لهم للمشاركة فى حوار لم يتم .

وعلى ذلك استمر الجيل المؤثر فى الثقافة المصرية منذ الستينات حتى اليوم مسيطرا على الواجهة والصدارة , ولم يتغير الخطاب الثقافي منذ ذلك الحين , ولم يتزحزح هذا الجيل الذى هيمن على الفكر والثقافة طوال تلك المدة , بحكم اقترابه من المؤسسة السياسية , وهو ما دفع المؤسسة الى الاعتقاد أن كل تفكير المثقفين فى مصر هو تكرار لثقافة وفكر هذا الجيل الذى لم تتعامل مع غيره . وتكون لدى تلك المؤسسة قناعة بأنه لا فكر فى مصر غير هذا الفكر .

وما فعلته القيادات السياسة , فعله حكام الأقاليم والمحافظون . فلا يوجد محافظ فى أي محافظة , يستطيع ان يلم بالخريطة الثقافية لمحافظته , ولا يعرف شعرائها ولا كتابها , ولكنه مع ذلك يعرف ضباطها ومهندسيها وأطبائها وشيوخها وصعاليكها .

أما لو كان أحد رجال تلك المؤسسة من الكتاب أو المثقفين , فإنهم سيتربصون به وينبذوه , ويترصدون له الفرصة ليبعدوه عنهم , بحجة عدم الإنتاج , أو انشغاله بغير العمل , أو تأليف الكتب بغير إذن , كما حدث مع عدد الكتاب من بينهم توفيق الحكيم نفسه . . وهو ما أدى أيضا الى ظهور حالات من الرفض بين المثقفين تشكلت طبقات متراكمة طبقة فوق طبقة منذ سنوات طويلة.

وأصبحت المؤسسات الفاعلة فى الدولة , تنظر الى المثقفين وإنتاجهم , بشيء من الريبة والارتياب .بل واصبحت تلك المؤسسات تتربص بهم وبإنتاجهم . فأى إنتاج للمثقفين يصبح محل مساءلة.

تسليط سيف مخالفة التقاليد , والموروث الديني , والاجتماعي , على المفكرين والمبدعين في في إبداعهم ، أصاب الفكر والإبداع فى مصر , بمرض يتعذر الشفاء منه , وهو الأمر الذى فاق ما تعرض له المبدعون الأوروبيون في عصور الظلام الأوروبية، أيام محاكم التفتيش في ذلك الوقت الذى سيطرت فيه الكنيسة ورجالها علي المجتمع وحركة تقدمه،

وعندما تعرض نجيب محفوظ لمحاولة الاغتيال كان الفاعل جاهلا بما يكتبه نجيب محفوظ , وربما تأثر بما يدور فى أوساط المؤسسة الدينية , من أراء حول بعض كتابات أديبنا الكبير . صحيح ان كبار رجال المؤسسة الدينية , وقتها تعاطفوا مع نجيب محفوظ الإنسان , ولكنهم مع هذا ظلوا على توجسهم من نجيب محفوظ الأديب . ولم تفلح الجهود التى بذلت بعد ذلك , تحت شعار التنوير , من إقامة جسور حوار وتواصل , مع المؤسسة الدينية . وهو ما ادى الى مزيد من المآسي والمحن التي تعرض لها كتابنا وشعرائنا

وهو نفس ما حدث مع قضية الراحل الدكتور نصر حامد أبو زيد . فقد ظل المثقفون على موقفهم من مؤسسات الدولة الأخرى حتى صدور الحكم بالتفريق بينه وبين زوجته , وهو حكم ضمني بتكفيره , مما ادى إلى خروج الرجل وزوجته من مصر . وهو الموقف الذي يفسر ما حدث عند نشر رواية وليمة لأعشاب البحر , وموضوع الروايات الثلاث , وما اثيرفى موضوع وصايا فى عشق النساء للشاعر احمد الشهاوى .

بل وربما إقتربت فى أذهانهم تلك الصورة التى أشيعت عن المثقفين , فى بداية السبعينات بأنهم من الشيوعيين , وأصبح الكتاب والشعراء فى نظر تلك المؤسسات من أصحاب هذا الفكر الذى ألصقته أجهزة الإعلام بالمثقفين فى الحقبة الساداتية , سائدا حتي اليوم .

.