رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ثروتنا المهدرة

متى آخر مرة زرت فيها متحفًا فى مصر؟؟ تعال نعدل صيغة السؤال قليلًا ونجعله: متى سمعت أن صديقًا أو قريبًا لك زار متحفًا مصريًا؟؟ فى الحقيقة أن إجابة كلا السؤالين ستتراوح بين أن آخر مرة زرت فيها المتحف كانت فى صحبة رحلة مدرسية «إذا كنت من مواليد السبعينيات والثمانينيات» أو أنك لم تزره إطلاقًا إذا كنت من مواليد التسعينيات، لا مع المدرسة ولا مع الأسرة ولا حتى مع نفسك.. حتى نعرف ما الذى نتحدث بصدده فالمتاحف هى بيوت التاريخ وسجلات الماضى وشواهد الحضارة.. تقول لنا ماذا كنا فى الماضى لنعرف ماذا علينا أن نكون فى الحاضر والمستقبل.. يقول المثل العامى إن «اللى ما لهوش كبير بيشترى له كبير» ويقول الواقع من حولنا إن «اللى ما لهوش تاريخ بيشترى له تاريخ»، حولنا دول تنفق المليارات كى تكون لديها متاحف.. وتنفق مليارات أخرى كى تجد أى شىء يمكن أن تضعه فى المتاحف التى أنشأتها!! وبعضها يستعير بعضًا من آثارنا العظيمة من متاحف الغرب حبًا وتقديرًا للحضارة المصرية القديمة ونحن نعيش فوق طبقات تاريخية متراكمة من الحضارة لكننا لا نعرف قيمتها ولا قيمتنا.. وفق بيانات قطاع المتاحف، فإن هناك أربعين متحفًا أثريًا تابعة للوزارة.. وهناك ١٥٠ متحفًا أخرى تابعة للوزارات المختلفة، مثل المتحف الزراعى والسكة الحديد ومتحف البريد... إلخ.. نحن لا نعرف من المتاحف سوى المتحف المصرى فى التحرير، وكثير منا لم تسمح ظروفه بزيارته.. لكن لدينا عشرات المتاحف تسجل طبقات الحضارة المصرية المتراكمة فوق بعضها البعض.. لدينا المتحف الإسلامى فى باب الخلق ولدينا المتحف القبطى فى الفسطاط ولدينا المتحف اليونانى والرومانى فى الإسكندرية ولدينا متحف الفن الحديث الذى يضم روائع الفن التشكيلى المصرى والعالمى ولدينا متحف محمود خليل باشا الذى يضم لوحات عالمية منها لوحة زهرة الخشخاش الشهيرة لفان جوخ التى سرقت ثم عادت ثم سرقت فى ملابسات غريبة وغامضة تمامًا.. لدينا متاحف رموز الفن والثقافة فى مصر مثل متحف أحمد شوقى «كرمة ابن هانئ» على نيل الجيزة ومتحف طه حسين «رامتان» فى الهرم ومتحف أم كلثوم فى المنيل والمتحف الزراعى فى الدقى والمتحف الحربى فى القلعة ومتحف المركبات فى بولاق أبوالعلا... إلخ إلخ إلخ، ولكننا لا نعرف قيمة تاريخنا أو أن هناك من دفعنا لأن نهمل تاريخنا حتى نتساوى مع من لا تاريخ له.. إن هذه الحالة المركبة من تجاهل المتاحف المصرية وإنكار وجودها تقريًبا أو عدم الوعى بوجودها هى نتاج عدة عوامل، أولها تراجع الدولة منذ السبعينيات عن القيام بدورها فى مجال الثقافة.. ثم تدهور حالة الأنشطة المدرسية مع ازدحام المدارس حيث كانت الرحلات المدرسية هى الوسيلة الأولى التى نتعرف من خلالها على المتاحف المختلفة فى عصر ما قبل الإنترنت.. من هذه الأسباب أيضًا انتشار الأفكار المتطرفة والفهم المغلوط للدين، الذى يعتبر أن هذه المتاحف تسجل معالم حضارات لقوم غضب الله عليهم ولعنهم، وهو فهم متطرف وساذج وغير واعٍ بمعنى الحضارة والإنسانية ولمفهوم أهل «الفطرة» الذين لم يرسل لهم رسول.. ومن أوجه الفهم المتطرف أيضًا الاعتقاد بأن التماثيل التى يحتويها بعض المتاحف هى بمثابة تشبه بالأصنام وهذا أيضًا فهم جاهل دحضه الإمام محمد عبده منذ أوائل القرن الماضى.. ولكن البعض أراد للنسخة المتشددة والصحراوية من الإسلام أن تسود مصر وأن تتوارى اجتهادات أئمة التجديد من الأزهريين.. من عوامل إنكار المصريين لوجود المتاحف أيضًا الطابع الاستهلاكى للكثير من برامجنا الإعلامية منذ بداية الألفية وظهور القنوات الخاصة.. حيث يفكر الجميع فى جلب الإعلانات وتحقيق أعلى نسب مشاهدة من خلال اختيار موضوعات «حراقة» تجذب الجمهور و«تركب التريند» وتتراوح معظمها بين فتاوى الحياة الزوجية ونزاعات مشاهير السوشيال ميديا ومشاكل مطربى المهرجانات.. وفى مثل هذه الأجواء يصبح من العبث أن نحلم بأن تستضيف برامج التوك شو أمناء المتاحف ليتحدثوا عنها أو أن ترسل البرامج الكاميرا لتسجيل اللوحات والآثار الحبيسة داخل المتاحف تنعى نفسها وزمنها.. وهناك أيضًا العامل الاقتصادى الذى يجعل طبقات واسعة أسيرة للسعى وراء لقمة العيش.. لكن حالة إنكار التاريخ والجهل به لدينا تمتد لتوحد الأثرياء والفقراء.. والطبقات الوسطى بشرائحها المختلفة مع الطبقات الشعبية بشرائحها المختلفة.. رغم أن الإنسان ليس معدة تحتاج إلى الطعام فقط.. لكنه أيضًا نفس تحتاج إلى أن تشعر بالتميز والتفرد وبمكانتها وسط العالم.. إن وعينا بتاريخنا من شأنه أن يجعلنا نصبر على واقعنا ونعتز بأنفسنا ونسعى لاسترداد مكانتنا ونعرف ماذا كنا وأين أصبحنا.. وبالتالى هو ليس رفاهية ولا وجاهة ولكن له دور كبير جدًا فى عملية تطور المجتمع وبعث الطموح القومى والوعى بالشخصية المصرية.. كما أن له دورًا ترفيهيًا أيضًا.. حيث يجب أن نفهم أن الترفيه ليس فى استهلاك الطعام ولا فى الحفلات غالية الثمن فقط.. ولكن كل أنواع الفنون والثقافة أيضًا هى ترفيه رفيع المستوى يرتقى بالعقل والروح والثقافة ويخفف من آثار الأزمة.. والآن لدينا فرصة تاريخية عبر الثورة الرقمية.. والإلكترونية.. ومطلوب من وزارة الثقافة تأسيس موقع إلكترونى يضم أقسامًا لكل متاحف مصر التى تقترب من ١٩٠ متحفًا.. يحتوى على صور عالية الجودة لمقتنيات هذه المتاحف ويجعل الدخول عليها مقابل رسوم رمزية مقبولة لأى فرد فى أى مكان فى العالم.. كما أننا يجب أن ندرس إنشاء مجمع المتاحف المختلفة، قد يكون فى العاصمة الإدارية الجديدة أو بالقرب من المتحف المصرى الكبير الذى يضم الآثار الفرعونية فقط.. كما أن علينا أن نعهد بمسألة التسويق الإلكترونى لمتاحفنا عبر السوشيال ميديا لمجموعة من الشباب الواعى الذى يجيد استخدام أدوات العصر للوصول برسالته للأجيال الأصغر.. وأن نعهد بإدارة المتاحف نفسها لكوادر أصغر سنًا وأكثر حماسًا وأفضل إعدادًا حتى يستطيعوا أن يقوموا بمهمة تسويق هذه المتاحف لدى مائة مليون مصرى ولدى ملايين السواح المحتملين من أنحاء العالم المختلفة الذين لا يعرفون شيئًا عن متاحفنا ويتعاملون بمزيج من الإهمال والكسل والتجاهل والتواطؤ.. وهى جريمة نرتكبها فى حق أنفسنا قبل أن يرتكبها فى حقنا أحد.