رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أيام بليغ الأخيرة «5».. هكذا تورط بليغ فى زيجة «وش الفجر» بسبب عمر الشريف

بليغ
بليغ

فى سنوات المنفى انطفأت روحه، خفّ ذلك الوهج الدائم فى عينيه، لم يعد تلك الشخصية المنطلقة المرحة العاشقة الحياة بنهم، بل تخلى عن أحب الهوايات إلى نفسه وهى تدبير المقالب فى الأصدقاء، هذه الهواية العجيبة التى أخذها عن أستاذه الشاعر الكبير كامل الشناوى، ثم تفنن هو فيها وأدمنها حتى إنه كان مستعدًا لأن يؤجل موعدًا مهمًا أو لحنًا جديدًا إلى أن ينتهى من تدبير مقلب ظريف يفجر فيه ضحكاته الطفولية الصاخبة. 

كان له مثلًا صديق يحبه اسمه على نصر يعمل مديرًا فى مسرح الطفل ومن أجله قدم له بليغ لحنين للأطفال، وكان على نصر مثله عاشقًا الحياة، ورغم تقدمه فى العمر، إلا أنه كان «عايق» كما يقول أولاد البلد. 

كان بليغ يحبه، لكنه يشعر بغيظ شديد من تصرفاته، فقد كان دائم الحضور إلى شقة بليغ حتى ولو لم يكن موجودًا، يعتبر البيت بيته، يأكل ويشرب بأريحية، بل وكان يأخذ معه كل مرة نصف زجاجة ويسكى ليكملها فى بيته، وقرر بليغ أن يدبر له مقلبًا يطفئ غيظه منه، ولما كان يعرف إعجاب صديقه العايق بممثلة شابة جميلة من المترددات على مكتب بليغ، فقد اتفق معها على أن «تلاغيه» وتتفق معه على موعد غرامى، وهو ما حدث بالفعل، وفعلًا ذهب إليها ومعه نصف زجاجة الويسكى التى اقتنصها من شقة بليغ أمس وصباع «بطارخ» كان قد حصل عليه هدية من عبدالرحيم منصور، وفى حين كان يُمنى النفس بسهرة سعيدة فوجئ بطرقات على الباب، ودخل بليغ ومعه شلة من أصدقائه بينهم عبدالرحيم وعبدالوهاب محمد وبهجت قمر، ومثّل بليغ أنه تفاجأ بوجود صديقه العايق الذى أصبح فى «نص هدومه» وقال للممثلة الشابة التى أتقنت الدور: قلنا نعدى عليكى تيجى معنا.. عندنا سهرة عند نجوى فؤاد!

وبسرعة نزلت معهم الممثلة وتركوا صديقهم العاشق العايق يعض على أصابعه.. وظل بليغ يضحك عليه كالأطفال طوال الليل، بل لأيام تلت!

مقلب آخر.. كان يومًا فى مكتبه، منهمكًا بشدة فى تلحين ثلاث أغنيات فى نفس الوقت فى وجود شعرائها: عبدالرحيم منصور وسيد حجاب وسيد مرسى، كانت ورشة عمل غريبة، كل واحد يجلس فى ركن أمامه ورقة وقلم، يكتب عبدالرحيم مثلًا مذهب أغنية، فيبدأ بليغ فى تلحينه حتى ينتهى من الكوبليه الأول، ويكتب سيد مرسى الكوبليه الأول فيبدأ بليغ فى تلحينه حتى ينتهى من الكوبليه الثانى.. وهكذا، الجميع يعمل بحماس، فقد كان هناك طابور من المطربين والمطربات على باب بليغ فى انتظار الألحان الجديدة.

وفى عز الشغل لم ينس بليغ هوايته المحببة، فقد غمز لصديقه المخرج جميل المغازى الموجود عنده يومها، وأشار بطرف عينه إلى حيث كان يجلس سيد حجاب، وبمجرد أن دخل سيد الحمام حتى أسرع جميل بورقة وقلم ونقل الكلمات الجديدة التى كتبها سيد حجاب، وأشار بليغ بطرف عينه لعبدالرحيم فأعطاه جميل الورقة وفهم عبدالرحيم المقلب وبدأوا فى تنفيذه بإتقان، وبمجرد عودة سيد قال بليغ: ما تسمعنا يا عبدالرحيم كتبت إيه، فبدأ عبدالرحيم فى إنشاد الكلمات «المسروقة» من سيد حجاب.. وبانت على سيد علامات الدهشة بل الخضّة وصاح: سلامًا قولًا من رب رحيم!.. سأله بليغ ببراءة: فيه إيه يا سيد؟.. قال سيد متلعثمًا: أصل الكلام ده أنا لسه كاتبه.. قال بليغ: يمكن صدفة يا أخى.. ثم أشار لعبدالرحيم: كمّل.. وأكمل عبدالرحيم بقية كلمات سيد المسروقة.. وكاد سيد يصاب بالجنون، وعندها انطلق بليغ فى وصلة ضحك طفولية، ففهم سيد المقلب وشاركهم فى ضحكهم الصاخب. 

فى باريس المنفى، لم تعد هناك مقالب ولا أصدقاء ولا ضحكات من القلب.. لذلك كان يتحايل على الغربة وينتظر بشوق حضور أصدقائه من القاهرة، ليشم فيهم رائحة الوطن المحروم من لياليه، وليستعيد معهم على الأقل ذكرياتهم القديمة، وينتزع الابتسامة من نفسه المهمومة انتزاعًا. 

 

العروس اسمها «آمال طحيمر» وظهرت بدور صغير فى فيلم «إشاعة حب» مع «لورانس العرب» 

من الأصدقاء القدامى الذين زاروه فى باريس فى أولى سنوات المنفى كان عمر الشريف، النجم الذى أصبح عالميًا، لكنه لم ينس أبدًا سهراتهم الممتعة فى بيت عبدالحليم حافظ، ولا أدوار «الكوتشينة» التى كانوا يتبارون فى لعبها. 

لا يعرف بليغ كيف توصل عمر الشريف إلى رقم هاتف بيته فى باريس، كل الذى يعرف أنه ترك كل مشاغله ولبى فورًا دعوة عمر له على العشاء فى «ماكسيم»، أفخم وأغلى وأشهر مطاعم باريس.. خاصة عندما أخبره أن من بين ضيوفه على العشاء كذلك الفنان الكبير فؤاد المهندس.. فى الموعد تمامًا كان بليغ يدخل «ماكسيم»، لكنه فوجئ بموظفى الأمن بزيهم اللامع يمنعونه من الدخول، من بين كل الداخلين استوقفوه وحده ومنعوه، لم يفهم بليغ وبان عليه الغضب وترجم له محسن خطاب الذى كان فى صحبته: يقولون إنه ممنوع الدخول بدون كرافتة!

كان بليغ يومها يرتدى جاكيت ثمينًا، لكنه لم يفكر أبدًا فى ارتداء تلك القطعة العجيبة من الملابس التى يرى أنها لا لزوم لها ولم يحرص أبدًا على أن يعلقها فى رقبته!

ما العمل إذن؟.. إن عمر الشريف ينتظره بالداخل، وحتى هؤلاء الموظفين الأوغاد رفضوا أن يخبروا مضيفه أنه على الباب.. ثم إن العودة للبيت لارتداء الكرافت ستستغرق وقتًا، وبعد دقائق من الجدال رجع بليغ محبطًا واتخذ قراره: يالا يا محسن.. ملعون أبوهم والله ما أنا داخل!

وبالمحايلة أقنعه محسن أن المسافة بين المطعم والشقة لن تستغرق سوى دقائق معدودات، وأن عليه أن يتصرف بسرعة إكرامًا لهؤلاء الذين ينتظرونه على الأقل.. وفعلًا عاد معه بليغ فى السيارة، لكنه رفض الصعود إلى الشقة، وقال بزهق: اطلع هات لى كرافتة زيتى فى نبيتى، ودخل محسن بسرعة، ولكنه احتار فى اللون المطلوب فحمل كل كرافتات بليغ فى كيس ووضعه على حجره فى السيارة ليختار ما يروق له، وترك باقى الكرافتات فى السيارة، وربطها بليغ سريعًا وجرى ليلحق بموعده مع عمر الشريف، واحتضنه بشوق كأنه يحضن فيه الوطن المحروم منه، وعاش بليغ ليلتها سهرة ممتعة من الذكريات.. والمأكولات، واطمأن إلى أن قلبه ما زال قادرًا على انتزاع الضحكات.

كان بليغ يحمل محبة غامرة لعمر الشريف، ربما لأنه من ريحة زمن العندليب وسهراته، هذا على الرغم من أن عمر هو نفسه ذات الشخص الذى ورطه ذات يوم فى زيجة فى «وش الفجر»!

والذى حدث أن بليغ يومها كان يعيش قصة حب ناعمة مع فتاة صغيرة، اسمها «آمال طحيمر»، كانت نحيلة وديعة وتتمتع بجمال هادئ وشىء ما لا يقدر بليغ على تفسيره يجذبه إليها، كانت يتيمة وتعيش مع خالتها، تهوى التمثيل ولديها طموح فى أن تظهر على الشاشة وتصبح نجمة، وجاءتها الفرصة لتظهر فى دور صغير، مجرد مشهد تظهر فيه كصديقة للبطلة النجمة الجديدة سعاد حسنى فى فيلمها الجديد «إشاعة حب»، والذى غيّرت بسببه آمال اسمها وأعطت لنفسها اسمًا فنيًا جديدًا هو «أمنية طحيمر». 

كان بليغ وقتها فى أول المشوار، مشغولًا بألحان أوبريت غنائى مع مؤلفه ومخرجه عبدالرحمن الخميسى اسمه «مهر العروسة»، كان الخميسى يعرف قصة حب بليغ وتطوراتها، ولما أخبره بليغ بسعادة بأن حبيبته تشارك مع اكتشافه المذهل سعاد حسنى فى فيلمها الجديد، فإذا بالخميسى يلفت نظره للورطة التى لم ينتبه إليها: يا خبر.. يعنى بتمثل مع الواد الحليوة اللى اسمه عمر الشريف.. ومش خايف عليها.. أكيد مش ح تعدى من تحت إيده!

كان بليغ كمن لدغته حية، أحس بخوف حقيقى على حبيبته الصغيرة، واتخذ قرارًا مجنونًا، قرر أن يتزوج من آمال فى التو واللحظة، حاول الخميسى أن يثنيه عن جنونه ولكن بليغ تشبث برأيه، وعاد مع الخميسى إلى بيته بوسط البلد، ومن هناك أيقظ آمال من النوم: اصحى يا حبيبتى وصحى خالتك وتعالوا على العنوان اللى ح أديهولك!.. سألته بفزع: بليغ طمنى جرى لك حاجة؟.. وبهدوء أنهى المكالمة بجملة واحدة: ح نتجوز الليلة! 

كانت ليلة مجنونة، طاوعت آمال بليغ فى جنونه فجاءت إلى منزل الخميسى، وطاوعه الخميسى فى جنونه فنزلا معًا يبحثان عن أى مأذون يطاوعهما فى جنونهما، طاف على كل مأذونى حى عابدين والأحياء المجاورة، إلى أن عثرا عليه فحمل دفتره وجاء معهما وكانت بشائر نور الفجر قد أطلت، وعقد المأذون قران هؤلاء المجانين، ثم عادت العروس إلى بيتها وبليغ إلى بيته!.. المهم أنها أصبحت زوجته، وحماها من ساحر النساء الذى اسمه عمر الشريف. 

عندما حكى بليغ القصة لعمر فيما بعد ظن أنه «سكران»، فلما اتضح له أنها قصة حقيقية خالصة وحدثت بكل تفاصيلها، وتأكد له أنها لا يمكن أن تصدر إلا عن بليغ حمدى! 

والمؤكد أن بليغ لم يحكِ له بقية القصة، فبعد كل هذا الجنون فإن الزيجة فشلت ولم تستمر أكثر من سنة!

حراسة خاصة لخاتم بليغ الألماس.. فى القاهرة وباريس 

كان عند بليغ خاتم من الألماس لا يفارق إصبعه، يحبه ويتفاءل به ويحرص عليه، وكان كل أصحاب بليغ المقربين يعرفون ما يعنى هذا الخاتم بالنسبة له، ليس لقيمته المادية الباهظة باعتباره من الألماس الحر وبه ٩ فصوص وتصميم نادر وبمواصفات تجعل منه تحفة ثمينة بمعنى الكلمة، ولكن الأهم من قيمته المالية ما كان يعنيه عند بليغ، فهو تميمة الحظ الدائمة، لذلك يضعه فى إصبع يده الأصغر ويحافظ عليه كعضو من أعضائه. 

لكن كانت تصادفه مشكلة غريبة، بل من غرائب بليغ وتخصه وحده، فقد كان بليغ عندما «يشرب» الخاتم يسقط من إصبعه، ما الذى يحدث لجسمه ولماذا «يكش» إصبعه بتلك الصورة الغريبة، لا يوجد عنده تفسير، ولكن يوجد قلق بالغ على الخاتم لذلك كان هناك من كانت مهمته أن تكون عينه دائمًا على الخاتم، كان من أصدقائه المقربين من يتطوع ليكون من «حراس الخاتم» محبة فى بليغ ليس أكثر، فإذا ما سقط من إصبعه تناوله أحدهم بسرعة ليسلمه لبليغ فورًا!

وفى سنوات المنفى بباريس، حيث لا أصدقاء ولا حراس، كان بليغ يتولى بنفسه تلك المهمة، وحدث مرة أن كان فى مطعم للأسماك بصحبة صديقه محسن خطاب، وكان من طقوس الأكل فى هذا المطعم الفاخر أن يتقدم أحد عمال المحل مع كل طبق جديد بإناء فيه ماء دافئ مخلوط بعصير الليمون، يغسل فيه الزبون يده بسرعة مما علق بها من «زفارة» السمك، وخوفًا على الخاتم خلعه بليغ وناوله لمحسن ليحفظه بعيدًا عن الماء و«الزفارة»، ووضعه محسن فى إصبعه حتى ينتهى بليغ من غدائه الشهى. 

وكان اليوم هو «الويك إند» الذى يقضيه محسن مع بليغ فى بيته بعد أسبوع عمل طويل، ولأن اليوم كان مرهقًا فقد عادا منهكين وناما على الفور، فلما استيقظ محسن فى الصباح لم يجد الخاتم فى إصبعه، وقام كالمجنون يبحث عنه فلم يجده، فص ملح وداب، واستيقظ بليغ وكان أول ما فعله أن سأله عن الخاتم، وراح محسن يبحث عنه فى كل مكان، فى حين كان بليغ يكظم غضبه بصعوبة، عاد محسن إلى المطعم فلم يجده، فتش كل ركن فى السيارة فلم يجد له أثرًا، فتش ملابسه لكن كانت النتيجة نفسها تطل برأسها القبيح: ضاع!

وبعد تلك الدوخة، وبعد أن جلس بليغ فى ركن من الشقة صامتًا ومستسلمًا وغاضبًا وحزينًا، إذا به وبكل بساطة يُخرج الخاتم من جيبه ويرتديه وينفجر فى وصلة ضحك طفولية صاخبة، وحكى لمحسن الذى كان دمه قد نشف: أنا دخلت عليك لقيتك نايم والخاتم واقع من صباعك على الأرض، أخدته وأخفيته وقلت أرعبك شوية!

عاد بليغ إلى مقالبه الطفولية، وعاد إلى نسيانه الغرائبى.

صديقه المايسترو جاء ليزوره فتركه فى بيته وسافر إلى لندن

زاره مرة صديقه المايسترو خالد فؤاد فى باريس، وأصر بليغ على أن يقيم معه فى شقته، إذ لا يصح أن يذهب لفندق وبيته موجود، واستأذن بليغ فى مشوار سريع لحد البنك، لكن الساعات مرت ولم يرجع بليغ، ومر الليل ولم يرجع بليغ، وفوجئ محسن خطاب بتليفون من المايسترو خالد فؤاد يسأله فى لهفة: هو بليغ مش عندك؟.. وأجاب محسن: لا ما شفتوش من إمبارح.. خير؟.. أجابه: أصله خرج من إمبارح وما رجعش والبيت لا فيه أكل ولا شرب ومش عارف أتحرك ولا أعمل إيه!

واقترح عليه محسن أن يغلق باب الشقة ويأخذ أول تاكسى ويعطى للسائق عنوان مطعمه، ويأتى ليكون فى ضيافته حتى يعود بليغ، وفى آخر الليل عاد معه محسن إلى شقة بليغ وكانت معه نسخة من مفاتيحها.. واشترى له احتياجاته من أكل وشرب، ومر يوم واثنان ولم يرجع بليغ، وفى اليوم الخامس عاد وبراءة الأطفال فى عينيه ليخبرهما أنه كان فى لندن!

الغريب أن أحدًا من أصدقاء بليغ لم يكن يغضب منه أو يقاطعه بسبب تلك التصرفات.. كلهم كانوا يغفرون له ببساطة ويتبخر غضبهم فورًا. 

يحكى لى محسن: أنت تستغرب أن بليغ ترك أصدقاءه فى الشاليه بصحارى سيتى ونسى أن يعود إليهم وأكمل السهرة عند الأستاذ ماهر العطار؟.. لقد حدث ما هو أغرب، ففى نفس الشاليه ترك بليغ أصدقاء آخرين ولم يرجع، واختفى تمامًا لأيام طويلة بعدها، ثم اكتشفوا أنه سافر إلى الحبشة!.. فقد سمع عن لحن فلكلورى إثيوبى فسافر ليسمعه من مصدره الأصلى!