رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أسوأ شخص في العالم

من الأفلام التي عرضتها بانوراما الفيلم الأوروبي في نهاية العام الماضي وأعيد عرضها الشهر الماضي في سينما (زاوية) والتي صارت المتنفس الوحيد لعشاق السينما والراغبين في الاطلاع على أفلام وتجارب وتيمات ليس لها علاقة بالهيمنة والثقافة الهوليودية الأحادية التوجه، فشاهدنا الفيلم النرويجي للمخرج الملهم والمجدد وأحد الأضلع الاساسية في تأسيس سينما (الدوجما) وهو المخرج الاستثنائي (لاريس فون تريير) وفيلمه الجديد (أسوء شخص في العالم) لنتساءل ربما بعد مشاهدة الفيلم عمن يكون هذا الأسوء؟
لنجد إجابات متعددة تتعدد بتعدد مستويات ومسارات التلقي وتلك هي عبقرية فن السينما بالتحديد والفنون في المطلق والتي تمنح للمتلقي أقصى درجات الأريحية والرحابة في تأويل وتلقي الرسالة والجرعة الفنية والبصرية المقدمة له وفقًا لرؤيته واستيعابه وما شكلته له ذهنيته ليرى الأشياء كما يحب أو كما يستطيع هو أن يراها.
فتعدد مستويات التلقي بتعدد انماط المتلقين ظاهرة صحية يفرزها الفن الراقي العميق الدلالة البسيط في طرحه ليحلق بنا لفضاءات أكثر إنسانية أسوأ شخص في العالم في الفيلم النرويجي وفقًا لرؤيتي كان هو (نحن).. كنا نحن وكان كل فرد فينا ربما هو الأسوأ ونتبادل الأدوار، فأحيانا تكون أنت هو أسوأ شخص في العالم ثم يأتي من هو أسوأ ويجعلك تكتشف أنك لست الأسوأ.
وقد ظنت بطلة العمل أن أسوء شخص في العالم هو أبيها، فهو من وجهة نظرها نجح في جعلها هي أسوأ شخص في العالم، فالبشر معلقون ومعقودون بذواتهم وما شكلها من شخوص وأمكنة تلقفتنا وتركت وبلا شك بصماتها علينا، كانوا هم سيئين فصرنا مثلهم أو العكس صرنا ضحايا لهم ثم أصبح لنا نحن أيضًا ضحايا.
وهكذا تتبدل الأدوار مثل لعبة الكراسي الموسيقية فالضحية يصبح مذنب والعكس، وكلنا مذنبون وضحايا نوجع غيرنا أحيانًا فيوجعنا الغير وهكذا دواليك ويصير كل واحد فينا هو (أسوأ شخص في العالم) وفقًا للسياق والظرف والواقعة.
فبطلة الفيلم لم تكن تدرك في البداية أزمتها الحقيقة والتي تسبب فيها والدها- وانعكس ذلك على حياتها وحيوات جداتها لأمها وكان مصيرهن جميعًا بسبب وجود الذكر في حياتهن الهجر أو التعاسة أو الموت أو المرض لذلك ظهر والدها في أحد مشاهد الفيلم مجردًا تمامًا من هالته الأبوية، رغم بعض الإشارات التي توحي بقوته فيما يجلس على الكرسي وتجلس هي أمامه، لكنه لوهلة يتجرد من سلطته وقداسته الأبوية فتصفعه على وجهه، وهذا لا يشير بشكل ضروري إلى تفوقٍ أنثوي على الذكورية، لكنه يوحي بعلاقة عائلية تبدو عادية في حين إنها تحمل في باطنها الكثير من الكراهية.
لذلك تقرر (جولي) بطلة الفيلم أن تمضي في حياتها بطريقتها الخاصة وتجرب أي شيء وكل شيء علها تجد ضالتها فهي لا تعرف في حقيقة الأمر أين ضالتها وما تريده حقًا من حياتها فقررت ممارسة مهنة التصوير والتي من خلالها تعرفت على الكثير من الرجال وعاشرتهم ثم تركتهم وبحثت عن غيرهم ولم تستطع أن تحب نفسها بشكل صحي كي تحب غيرها، حتى أحبها وبصدق كاتب قصص أطفال نصف شهير لكنه كان أكثر شهرةً منها وأكبر منها في العمر وأدرك هو ذلك منذ البدايات ومنذ اللحظة الأولى ولم يرغب في الارتباط بها لفارق السن الكبير بينهما وكي لا يهجر أو يظلم فتاته معه فانتهى به الحال ليهجر هو منها ويموت وحيدًا بالسرطان بعد أن هجرته ثم هُجرت هي في النهاية من الشخص الذي ذهبت إليه بعد هجرها للكاتب والذي مات وهو في الأربعينات من عمره.
وقبل رحيله وفي تلك اللحظات الصعبة ذهبت إليه لتتعلم المزيد عن نفسها وعن الحياة رغم أن ذهابها إليه كان متأخرًا وعندنا عاشت (جولي) مع الشخص الجديد الذي تعرفت عليه خلال علاقتها مع الكاتب ثم ملته مع الوقت وعاملته بغلظة وتململ حتى رحلت عنه، وكانت لا إنجابية وكان الشاب الأخير كذلك ورفضت تحقيق حلم الكاتب في الإنجاب لأنها تخشى ذلك ومات ولم ينجب بل وتخلى عن حلمه بالإنجاب من أجلها لكنها أصرت على هجرانه وبعدها هجرت الشاب اللانجابي أيضًا.
وفوجئنا في نهاية الفيلم أنها تلتقي بعده صدفة مع زوجته الجديدة وقد أنجب منها طفلهما وبدى في مشهد النهاية في الفيلم على هيئة الأب الصالح والزوج الودود المتعاون.
تندهش جولي ولا نعرف إن كانت نادمة أم لا فللاختيارات كلفتها والإنسان مسئول مسئولية تامة عن كل ما يحدث له. 
تتقدم (جولي) في العمر كما يتقدم الجميع في العمر ويفارقنا الأخرون بالموت او الهجران وقد هجرت هي من ظنتهم الأسوأ ولربما كانت هي ذلك الأسوأ ورغم ذلك لا يدين الفيلم أو السيناريو أحد.
فقط استعرض لنا حيوات الجميع علنًا نرى أنفسنا فيهم وقد تتماهى حيواتنا معهم أو لا تتماهى وكأن الفيلم يطرح سؤال أو مسابقة ليجيب فيها الجمهور - كل على حدة- حول رؤيته عن أسوأ شخص في العالم.
فيلم بديع شديد العمق والبساطة مكتوب ومصنوع بسلاسة وعناية فائقة وكنت أراه يستحق جائزة السيناريو وليس فقط جائزة أحسن ممثلة والتي ذهبت لبطلة العمل (ريناتا راينزفي) التي جسدت دور جولي ولا ينتهج تراير أسلوبًا معينًا للتعاطي مع الفيلم، بل يتلاعب بأكثر من تقنية حكائية داخل سياق الفيلم، وهذا ما يجعل المنتج البصري في بعض اللحظات يبدو مثل قطعة مكثفة داخل سياق الفيلم، مجرد حلم طارئ أو طيف عابر لكابوس مروع يظهر بغتة في نوبة مفاجئة ثم يخبو، رغم أنه يطوع تلك التقنيات الفنية والقطع المكثفة في تمرير أفكار تعري الشخصية وتكشف عن لا وعيها بطريقة جذابة رغم أنها تبدو في بعض الأحيان كشيء خارج السياق.
لكن ارتباطها بالشخصية الرئيسية يعني ارتباطها بالفيلم نفسه كجزء من كل، لأن عالم الفيلم نفسه يتمركز حول البطلة، ويظهر ذلك بوضوح في مشهد إيقاف الزمن الاستثنائي، هذا التشظي السردي يصنع عالم موازٍ تمامًا للحقيقة، لا يخضع للمنطق الطبيعي، بل يسهم في خلق لحظة إزاحة للزمن بمعناه الأدبي، واختلاس للمؤقت الملتبس، وهذا النوع من المشاهد يحمل في طياته ميلٌ للمكاشفة بين الصانع والمتلقي، حيث تحضر البطلة ويحضر الجمهور كشاهد، في غياب تام لكل الموجودات تقريبًا وانصراف عن الواقع بكل مجرياته في محاولة لتفكيك مشاعر الشخصية وعزلها عن وجودها كجزء من كليةٍ شاملة، فتصبح المشاعر هي مركز الثقل الإنساني الذي يدفع الشخصية للتحرك، ويتجمد العالم من حولها كأن العالم كله يقف مع الجمهور، ويكتفي بالمراقبة.
وفي تلك المتتالية قوة هائلة توضح مفهوم الخضوع الإنساني للرغبة والإذعان للإرادة اللحظية، ولا يمكن أن نقول إن الحب هو ما دفع جوليا للركض في ذلك المشهد وتلك اللقطة الطويلة فالحب شيء أكثر قداسة من ذلك، لكنه الاستجابة للخيار المغري والأكثر ضمانًا للراحة النفسية لها في ذلك الوقت.
ففي حالة جولي لا يؤخذ الحب على محمل الجد، تتفجر المشاعر فجأة وتنقطع فجأة كما بدأت، كأن الحب حصيلة نوبة جنون، حين تتراخى حدته يضعف تأثيره وتنقطع أوصاله، لكنه لا يتلاشى بشكل مطلق، وتظل بقاياه في الذاكرة.
وعندما انتقلت جولي للعيش مع حبيبها الثاني إيفيند (الممثل هربرت نوردروم)، مرت هي بتجربة أخرى شديدة الخصوصية، تحمل في داخلها نوعًا من الفردانية، حين تأكل نبتة فطر مثيرة للهلوسة وتسقط في قعر اللاوعي، محاصرة بصفوف من الكوابيس ومقيدة بذكريات أخذت أشكال لهواجس مروعة، يستخدم (تراير) معها تيمات الوقت فنجد كل الرجال الذين قابلتهم وعاشرتهم جولي منذ البداية، يتحولون من مجرد ذكريات مخبأة في عمقٍ لا شعوري، إلى صورٍ أكثر بشاعة وترويعًا، ربما لأن جوليا توقن في باطنها أنها ظلمتهم بانقطاعات خاطفة دون مبرر واضح و كانت أسوأ شخص في العالم.
لهذا كان للذاكرة حضور كابوسي ليس فقط على مستوى الحضور الذكوري المكبوت في صورة عشاقها السابقين، بل جسدها الذي بدا مترهلًا محاصرًا بأكف عشاقها السابقين بطريقة جنسية فيها الكثير من التسلط والهيمنة.
بالإضافة لذلك، الكثير من الفزاعات التي ظهرت خلال الأحداث وتجمعت مثل الخوف من إنجاب الأطفال والخوف من الانسلال اللاشعوري للزمن، ورفض طبيعته السائلة، لهذا كانت كثيرة التجارب، سريعة التغيير، مؤمنة بضرورة اكتشاف الهوية والشغف في عالم كثير الاحتمالات.
وعندما علمت جوليا بالصدفة عن مرض حبيبها السابق بالسرطان، شعرت بالصدمة والكثير من الذنب الذي أثر على علاقتها بإيفيند، ويكتمل الأمر بحملها لطفلٍ من (إيفند) وهنا يتضخم الشعور بالذنب، لأن واحدًا من أكبر مخاوف جوليا قد تحقق، ربما مع الشخص غير المناسب والوقت غير المناسب، فإيفيند صغير السن، غير مستقر ماديًا ولا يفكر في إنجاب الأطفال.
على الجانب الآخر، الكاتب (أكسيل) مصاب بالسرطان، وهو الذي حاول إقناعها بإنجاب الأطفال، بسبب سنه الكبير واستقراره ماديًا ووظيفيًا، لكنها لم توافق، وهكذا هي الحياة.   
يبدو الفيلم كمحاولة لا واعية لصنع قصة حب حقيقية بالكثير من الكوميديا السوداء وكأن المخرج يقدم تجربة للمشاهدين لا فيلمًا بمعناه الكلاسيكي، تجربة فيها الكثير من ذواتنا بل خليطًا من كل شيء، لأنه يتحتم على الإنسان في النهاية ألا يهرب من الحياة قي المطلق وأن يترك نفسه لوخزها فكل علامة ستترك اختيارًا صعبًا كان يجب المرور من فوقه بندبة، لكننا أحياء على كل حال ولسنا أسوأ شخص في العالم.