رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«الدستور» وطه حسين وحديث الإزالة المزعوم

كم هو مؤلم أن تكتب اسم عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين على موقع البحث الأشهر، فتكون نتائج البحث الخمس الأولى عبارة عن أخبار أو مقالات تتعلق بإزالة مقبرته، أو تفكير أسرته فى نقل رفاته، أو ترحيب الحكومة الفرنسية بإنشاء مقبرة تليق بمقام أهم مفكر وكاتب مصرى فى العصر الحديث.

لأول وهلة سوف يصدمك المكتوب، أو تصدقه لمجرد وروده على ألسنة البعض ممن تظن أنهم ينتسبون إلى فئة المثقفين أو الكُتاب، أو الصحفيين، ومنهم من كتب أنه تحدث إلى إحدى حفيدات العميد، فحدثته عن قطع المياه عن المنطقة التى تقع بها المقبرة، وتفكيرها والأسرة فى نقل رفات العميد.

المدهش فى الأمر أن أيًا منهم لم يقل إن فردًا من محافظة القاهرة، الجهة الوحيدة المسئولة عن المشروع المزعوم تضمنه تلك الإزالة، أكد ما يقولون، أو حتى ألمح إليه، بل إن حفيدة العميد قالت لهم نصًا «إن الأسرة لم تتلق أى إخطار رسمى بالإزالة»، ولم يزد الأمر على رؤية أحدهم للمقبرة وقد وضعت بجانب بابها علامة «إكس» حمراء، ثم قيل إنه أضيفت إليها كلمة «إزالة».

والحقيقة أننى لا أعرف كيف ينتمى لمهنة الإعلام والصحافة من لا تحركه مثل هذه التصريحات، فيتعامل معها باعتبارها أول الخيط لا آخره، وإنما يكتفى بها، ويعتبرها هى الحقيقة النهائية، لكى يبدأ «الزيطة» مستندًا إليها.

كان الأجدر بأى مهتم من الأسرة أو غيرها أن يبحث عن ذلك المجهول الذى وضع تلك العلامة المستفزة، أو يتوجه إلى الجهة المسئولة للوقوف على حقيقة الأمر، والبحث فى مدى صحة صدور مثل هذا القرار أو مصدره، بدلًا من تلك الحالة من المزايدات الحمقاء التى ملأت الفضاء الإلكترونى لأيام نحمد الله أنها لم تطل، ولم تستمر.

أعترف بأنه ربما يعجز عقلك لأول وهلة عند رؤيتك تلك الصورة، خصوصًا إذا كنت مثلى ممن يدركون عظيم فضل الراحل الكبير على عموم المصريين، والحقيقة أننى فزعت عندما شاهدت الصورة التى بدأ تداولها فى مايو الماضى، فمن هو ذلك الموظف الذى اقترح، أو امتدت يداه لوضع كلمة «إزالة» بجانب باب يعتليه اسم الرجل الذى منحته كلماته الحق فى التعلم، وكانت هى صاحبة الفضل الأول فى وضع خطواته على سلم العمل والقراءة والكتابة؟

يومها تحدثت بشأن تلك الصورة مع صديقى الدكتور محمد الباز، رئيس مجلسى إدارة وتحرير «الدستور»، فأكد لى أنه لا صحة لوجود مثل هذا القرار، وأن هناك الكثير من الحلول الهندسية التى يمكن اللجوء إليها لتفادى المرور بالمدفن، بل إن المصلحة العامة تحتم البحث عن أفكار جديدة لتطوير مدافن من يحب تسميتهم بـ«أعيان مصر» من كبار الأدباء والمثقفين والفنانين، ومنها على سبيل المثال فكرة إنشاء حديقة كبيرة يتم نقل رفات هؤلاء الكبار إليها، والتعامل معها كواحد من أهم المقاصد السياحية للعاصمة.. بالطبع لم ينته الحديث عند تلك النقطة، فقد استمر وتواصل حتى بادرنى بالمفاجأة صباح يوم الجمعة الماضى، عندما سألته مرة أخرى عن الأمر بعد تجدد الحديث عنه فى وسائل الإعلام، فضحك قائلًا: «مافيش إزالة ولا حاجة زى ما قلت لك.. معانا بيان النفى من المحافظة».

هنا كان لى أن أحتفل، ليس بالنفى فقط، بل بثمرة ما عملنا عليه معًا طوال سنوات فى صحيفة وموقع «الدستور»، فى التأسيس لصحافة مصرية تبحث عن الحقيقة الكاملة، ولا تقبل بغيرها، فلا ترتكن إلى الشائعات، ولا تسير أسيرة «للتريند»، ولا تقع فى فخ المعلومات المنقوصة، وإن لم يظهر ضمن النتائج الأولى للبحث على مواقع الإنترنت، لا لشىء إلا لسطوة حضور «قطيع الإزالة» على تلك المحركات.

وسط ذلك الكم العجيب من سخافات الكلام عن قرار الإزالة، انفرد الزملاء فى «الدستور» بنشر حقيقة الأمر، وببذل الجهد، وعدم الارتكان إلى الراحة أو الاكتفاء بمجرد نقل ما تبثه تلك الأفواه، فكان للزميل مصطفى عبدالله، المحرر بقسم المحافظات، سبق التأكيد أن المقبرة لم تكن فى أية لحظة ضمن خطة تطوير المنطقة، ولم توضع على خريطة الإزالة، وكان نص ما نشره «الدستور» صباح الجمعة الماضى كالتالى: «نفت المنطقة الجنوبية لمحافظة القاهرة، ما تم تداوله مؤخرًا بشأن إزالة مقبرة عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين، مؤكدة أن ما تردد حول هذا الأمر عبر مختلف وسائل الإعلام، عارٍ تمامًا عن الصحة». وأكدت المهندسة جيهان عبدالمنعم، نائب محافظ القاهرة للمنطقة الجنوبية، أنه لم يصدر قرار بإزالة مقبرة عميد الأدب العربى الواقعة فى منطقة مقابر قرافة سيدى عبدالله بمنطقة التونسى بالقرب من مسجد ابن عطاء الله السكندرى بنطاق حى الخليفة بجنوب القاهرة، كما أنها لا تدخل ضمن أعمال التطوير التى تتم حاليًا.

ولم تمض دقائق حتى كان الزميل إيهاب مصطفى، الأديب والمحرر بالقسم الثقافى بالدستور ينفرد بأن الدولة المصرية هى التى تكفلت ببناء مدفن الدكتور طه حسين الذى لم تكن لديه مقبرة يوم وفاته، والمفاجأة الأكبر والأهم أنه تم بناؤها، بينما كانت الدولة كلها مشغولة بحرب أكتوبر، إذ توفى العميد فى الثامن والعشرين من أكتوبر، وتأخر دفن جثمانه ثلاثة أيام تم خلالها إنشاء المقبرة من قبل الدولة تكريمًا له، وتقديرًا لدوره الكبير فى الحياة الثقافية المصرية.

الملفت فى الأمر أنه بعد ذلك البيان، وتأكيد اللواء إبراهيم عوض، المتحدث باسم محافظة القاهرة، بعدها بساعات أنه «لن تتم إزالة مقبرة طه حسين ضمن أعمال التطوير فى المنطقة، والعلامة التى وضعت كانت بالخطأ، وكل مقابر الشخصيات العامة والتاريخية لن تتم إزالتها خلال خطة التطوير الخاصة بالمحاور والطرق»، استمرت بعض المواقع التى كنت أفترض فيها المصداقية أو بعض المهنية، فى حديث التهييج و«الزيطة»، و«ركوب التريند»، ومنها مواقع نقلت ما انفردت به «الدستور» نصًا، ولكن مع تغيير العنوان ليناسب ما يريده جمهورها من المزايدين و«الزيّاطين»، فكتبت: «القاهرة تتراجع عن إزالة مقبرة طه حسين»، ذلك العنوان المريب الذى لا أصل له فى متن الخبر أو التقرير.

والأغرب أن شخصيات عامة يفترض فيها حسن التفكير سارت على نفس النهج، ومنها تلك النائبة التى أصدرت صباح الأحد بيانًا تشكر فيه المجتمع المدنى والشخصيات العامة والمدافعين عن التراث المصرى «والرافضين لهدم مدفن عميد الأدب العربى»، ونقلت عنها مواقع ما نصه أن «الحكومة استجابت للضغط الشعبى بالحفاظ على مدفن طه حسين»، أى تراجع؟ وأى استجابة تلك التى تتحدث عنها سيادة النائبة؟.. فلم يكن هناك قرار من الأصل، ولن يكون. 

المقبرة أنشأتها الدولة تكريمًا لرجل عظيم، ولم تقرر هدمها، بالتالى لم تتراجع عن ما توهمه «الزيّاطون»، ولم تستجب لضغط «المزايدين».

وعاش شباب «الدستور».