رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الجنرال برد.. الجنرال حر

درج المؤرخون على دراسة تاريخ الحروب والمعارك العسكرية الكبرى، من خلال رصد وتتبع أعداد الجنود فى الطرفين ونوعيات التسليح، والخطط العسكرية، وما يترتب على ذلك من نصر أو هزيمة.

لكن لم ينتبه الكثيرون إلى الأهمية الكبرى لمسرح العمليات، وطبيعته الجغرافية، والأكثر أهمية من كل ذلك طبيعة المناخ وتأثيره على بدء أو نهاية العمليات العسكرية، بل ودوره فى حسم المعركة، والوصول إلى النصر أو حتى الهزيمة.

تذكرت كل ذلك مع بدء العملية العسكرية الروسية فى أوكرانيا هذا العام؛ إذ أشارت التقارير الغربية إلى أن روسيا ستبدأ تحركها فى أوكرانيا مع نهايات شهر فبراير، ومع قرب انتهاء فصل الشتاء، وبالفعل بدأ التدخل الروسى فى نهاية فبراير. والحقيقة أن التوقع الغربى بموعد بداية العملية لم يكن نوعًا من التنجيم أو التنبؤ بالغيب، وإنما نتيجة لقراءة واعية للتاريخ، وبصفة خاصة التاريخ العسكرى للإمبراطورية الروسية والاتحاد السوفيتى.

ودفعنى ذلك إلى الرجوع للتاريخ، ومحاولة تفهم هذه الظاهرة: دور المناخ فى الحروب. يحدثنا التاريخ أن محاولة الغزو الأكبر واجتياح الإمبراطورية الروسية فى القرن التاسع عشر جاءت على يد القائد الفرنسى الشهير نابليون؛ حيث أعد نابليون جيشًا جرارًا لغزو روسيا، وكانت كل الشواهد، بل وكل التقديرات، تشير إلى نجاح نابليون فى غزو روسيا.

بدأ نابليون عملياته العسكرية فى شهر يونيو ١٨١٢، ولم يكن اختيار هذا التاريخ محض صدفة؛ إذ يدرك نابليون بخلفيته العسكرية صعوبة الحرب فى الشتاء فى روسيا، حيث يكسو الجليد الأرض، ويتعذر تحرك الجيوش، وتنقطع خطوط الإمدادات، بل يموت الإنسان حيًا. من هنا كانت البداية فى شهر يونيو، وسرعان ما اجتاح نابليون منطقة غرب روسيا، بل ودخل موسكو نفسها. ولكن لم تسترعِ انتباه نابليون سرعة انسحاب الجيش الروسى، وعدم دخوله حربًا حاسمة، لكنه أدرك بعد ذلك أن الجيش الروسى كان يريد إطالة أمد المعركة، حتى يأتى فصل الشتاء ليلعب المناخ دوره فى صالح الجيش الروسى المعتاد على هذا المناخ، ويعانى الجيش الفرنسى من قسوة المناخ وصعوبة الحركة، ومشاكل خطوط الإمداد الطويلة. وبالفعل اضطر نابليون إلى إنهاء الحرب فى شهر ديسمبر من العام نفسه، مُعلنًا كلمته الشهيرة: لقد انتصر الجنرال «برد»!

الغريب أن السيناريو نفسه تكرر فى القرن العشرين، مع غزو هتلر الاتحاد السوفيتى؛ إذ بدأ الغزو النازى للاتحاد السوفيتى فى يونيو ١٩٤١. وكانت كل المؤشرات تذهب إلى اجتياح هتلر الاتحاد السوفيتى، لكن السوفيت سيلعبون على خطة الجنرال «برد» وإطالة أمد المعركة حتى مجىء الشتاء. وبالفعل تتوقف الانتصارات الألمانية مع مجىء الشتاء، لتتحول إلى كوارث عسكرية للجيش الألمانى، ومع مجىء ديسمبر بات من المهم للألمان البدء فى الانسحاب وإنهاء العملية العسكرية.

وكما شاهدنا الجنرال «برد» ودوره فى التاريخ، نجد أيضًا الجنرال «حر» ودوره فى الحروب؛ إذ تُحدثنا المصادر الفرنسية فى زمن الحملة الفرنسية عن محنة الجيش الفرنسى فى التحرك خارج المدن، خاصةً فى الصيف حيث حر الصحراء، وتدمير البدو آبار المياه الصالحة للشرب، وصعوبة خطوط الإمداد، هذا فضلًا عن اصطياد البدو مؤخرة الجيش الفرنسى المنهكة من العطش والجوع.

هل لا يزال للمناخ، والجنرال «برد» وأخيه الجنرال «حر»، أدوار مهمة فى الحروب الآن؟ أعتقد نعم.