رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

واحة الصحافة

صلاح عيسى يكتب: أحمد بهاء الدين.. المنتمى غير المنحاز

صلاح عيسى
صلاح عيسى

كان الأستاذ أحمد بهاء الدين «١٩٢٧- ١٩٩٦»، والذى تحل اليوم ذكرى رحيله السادسة والعشرون، نسيجًا وحده.. كان مثقفًا كبيرًا يصنع الصحف وكان ذا عقلية نقدية.. يمارس النقد بهدف الإصلاح لا بأى هدف آخر.. كان من جيل الكتّاب الذين فقدوا الأمل فى أحزاب ما قبل الثورة وانفتحوا على أفكار جديدة ظهرت فى أواخر الأربعينيات مثل العروبة والاشتراكية.. كان محققًا قانونيًا فى وزارة التربية والتعليم يشاركه فى مكتبه فتحى غانم وعبدالرحمن الشرقاوى قبل أن يصبح الثلاثة من نجوم الكتابة والفكر.. ترك مقالًا عن ميزانية مصر لدى استعلامات «روزاليوسف» فأصدر إحسان عبدالقدوس قرارًا بتعيينه! وبعد أربع سنوات أسند إليه مهمة تأسيس مجلة صباح الخير.. بعد قليل أصبح رئيسًا لتحرير جريدة الشعب ١٩٥٩ أحد أصوات ثورة يوليو الصحفية، ثم ذهب إلى أخبار اليوم ثم المصور ثم الأهرام ثم العربى، وخلال هذه الرحلة الطويلة لم يكن سوى نفسه.. روى الأستاذ هيكل أنه ظهر رأى يرتاب فى علاقة الصداقة العميقة التى تربط بهاء بالمثقفين الشوام البعثيين، لكن عبدالناصر دافع عنه قائلًا: «سيبوه.. هو دماغه كده»، والمعنى أنه كان يحترم استقلاله ويدرك إخلاصه.. حتى لو كان يفكر بطريقة مستقلة.. ورغم هدوئه الظاهرى فقد خاض الأستاذ أحمد بهاء الدين عشرات المعارك الساخنة، كان منها فى الستينيات معركته ضد الشيخ محمد أبوزهرة حول حقوق المرأة فى الإسلام والتى بدأها بمقاله الشهير «لا يا شيخ»، وكان منها معركته مع عباس محمود العقاد الذى أطلق على نفسه لقب «عدو المرأة» وكان يرى أنها أقل من الرجل.. ورغم أن بهاء عرف الرئيس أنور السادات بشكل شخصى فإن هذا لم يؤثر فى نقده بعض السياسات بعد حرب أكتوبر، وكان أهمها تطبيق سياسة الانفتاح الذى وصفه بـ«السداح مداح» تعبيرًا عن الخطأ فى تطبيقه.. سافر بعد قليل ليرأس تحرير العربى الكويتية ثم عاد ليكتب عموده فى الأهرام تحت عنوان «يوميات» حتى سقط متأثرًا بالغزو العراقى للكويت ليقضى سنواته الأخيرة فى عزلة فرضها عليه المرض.. فى السطور القادمة يكتب موهوب عن موهوب وكاتب كبير عن كاتب كبير.. يكتب صاحب «حكايات من دفتر الوطن» عن صاحب «فاروق ملكًا» و«محاوراتى مع السادات» وخمسة وعشرين كتابًا آخر.. رحمة الله عليهما وعلى كل من قدم جهدًا مخلصًا لهذا الوطن.

                                                                                                                                                                       وائل لطفى

 

كانت ثورة ١٩١٩ فى الثامنة من عمرها حين ولد «أحمد بهاء الدين»، فى ١٠ فبراير ١٩٢٧، وكانت قد جرت فى النهر- خلال تلك السنوات- مياه ودماء غزيرة، وغرقت فيه على الرغم من ذلك أحلام كبيرة، خمدت جذوة الثورة المشتعلة وانتهى حماسها الفوار «الاستقلال التام أو الموت الزؤام»، وأسفرت- فقط- عن نصف استقلال ونصف ديمقراطية: نصف استقلال أنهى الحماية البريطانية، لتظل مصر خاضعة لتوجيه سياسى يمارسه لورد استعمارى قارح يحمل لقب المندوب السامى هو «اللورد لويد»، يدعمه جيش احتلال بريطانى تتوزع حامياته فى كل المدن. ونصف ديمقراطية محاصرة من كل الاتجاهات.

أحمد بهاء الدين".. ضمير الصحافة المصرية
أحمد بهاء الدين

وكان «أحمد بهاء الدين» فى الثانية من عمره حين بدأ عام ١٩٢٩ «الكساد العالمى الكبير»، الذى ظل يتصاعد خلال السنوات الأربع التالية، ليتواكب مع «الانقلاب الدستورى الكبير» الذى بدأه «محمد محمود» بإيقاف العمل بدستور ١٩٢٣ لمدة ثلاث سنوات قابلة للتجديد، مقابل وعده للشعب بأن يقوم بتجفيف البرك والمستنقعات، ثم استأنفه بعد إجازة دستورية- لم تكمل العام- «إسماعيل صدقى»، ليلغى الدستور ويستبدله بغيره أقل ليبرالية، حتى لا يكون فضفاضًا على «الرعاع»، الذين لم يكن يثق أدنى ثقة بأهليتهم لحكم أنفسهم، ليضيف الكساد إلى بنادق الشرطة فى مواجهة المتظاهرين دفاعًا عن مبدأ الأمة مصدر السلطات، فيسارع كثيرون من «أفندية الريف» للانفضاض من حول الوفد، فى تلك السنوات- أو الثلاثينيات- بدأ سفر خروج البرجوازيين المصريين الصغار من الطلبة والموظفين وصغار التجار والمحامين من تحت عباءة الوفد التى ضاقت عن طموحهم. وكانت النازية والفاشية تخايلانهم بأحلام بعث المجد الذى كان يصهر الشعب فى سبيكة واحدة بلا أحزاب تفتته وبلا ديمقراطية تشتت جهوده، فاستعاد شعار الاستقلال وهجه وخفت وهج الديمقراطية، لكى يواجه قهرًا وعهرًا استعماريًا لم يتورع عن قتل «عمر المختار»، وعن تنفيذ الإعدام بالحبال علنًا فى «ساحة المرجة»، ولم يتردد فى أى يوم عن فتح نيرانه على المتظاهرين ضده فى بغداد وبيروت والقدس ويافا.

صلاح عيسى

وهكذا عرفت مصر الثلاثينية أحزاب هؤلاء البرجوازيين الصغار، الذين لا يمكن إلا أن يكونوا فى الطرف الأقصى من كل شىء. رفعت «مصر الفتاة» شعار: «مصر فوق الجميع»، أى فوق جميع الأمم وجميع الأحزاب، ورفع «الإخوان المسلمون» شعار: «القرآن دستورنا»، وجرى البحث عن مستبد عادل يعيد الروح ويدمج الكل فى واحد كما تمنى أبطال رواية «توفيق الحكيم»، وصرخ «أحمد حسين» زعيم «مصر الفتاة»: «يا شباب ١٩٣٣ كونوا كشباب ١٩١٩». وشاع الحديث عن جيل من الثوار شاخ وأعطى كل ما عنده، استغفله المستعمرون وحايلوه بالديمقراطية فبلع الطعم واستبدل شعار «الدستور أولًا» بشعار «الاستقلال التام أو الموت الزؤام»، بينما الثورة لم تنشب إلا من أجل الاستقلال ولا شىء آخر غير الاستقلال.

وظل «الوفد» صامدًا وحده لا يجد فارقًا بين الاستقلال والديمقراطية، أو مبررًا للاختيار بينهما، فالشعوب لا تطلب الاستقلال إلا لتحكم نفسها بنفسها.

إحسان عبد القدوس بعد ثلاثين سنة... شعبية واسعة وإهمال نقدي | الشرق الأوسط
احسان عبد القدوس

ولأن «عبدالعال أفندى شحاتة»، الموظف الصغير بوزارة الأوقاف، كان ينتمى إلى الجيل الذى ولد بين الثورتين «١٨٨٢- ١٩١٩» وسمع فى طفولته أصداء حكايات «هوجة عرابى»، وكان قد غادر مسقط رأسه فى إحدى قرى وسط الصعيد على سطح إحدى موجات الهجرة الكثيرة التى كانت تحمل الجنوبيين إلى الشمال، يهرب فقراؤهم من نقص القوت ومن الطواعين والفيضانات، ويهرب مستوروهم، مثله، من جدب الحياة وتخلفها. وفى إسكندرية ذلك الزمان ولد «أحمد بهاء الدين» فى مصر، ذلك الزمان الذى كان كل شىء فيها ضد كل شىء: الاستقلال ضد الدستور، وثوار الثلاثينيات ضد ثوار العشرينيات، والأصالة ضد المعاصرة، والقومية ضد التعددية الحزبية، والوطنية ضد التقدم، فلا شىء يأتى من الغرب ويسر القلب.

وكانت الإسكندرية أيامها نموذجًا لزمن الاستقطاب ذاك، فهى مدينة متروبوليتانية تعيش فى حالة شيزوفرينيا ديموجرافية، وتنقسم إلى أحياء إفرنجية نظيفة يسكنها الأجانب المحليون وأثرياء الوطنيين، يستمتعون بالجمال ويصبغونه ويبشرون بأفكار متقدمة وسامية حقًا، ولكنهم يقصرون خيرها على أنفسهم. وأحياء وطنية يتكدس فقراء المهاجرين الصعايدة فى أزقتها المتداخلة، التى تتحول أرضها فى موسم الأمطار إلى أوحال، ويمرح الذباب فى فضائها، وتسرح فيها أوبئة الطاعون والتيفوس والكوليرا، وتبدأ منها المظاهرات العارمة دفاعًا عن الاستقلال والديمقراطية.

وهكذا طرحت مصر الأضداد وإسكندرية الأضداد، مشاهدهما أمام عينى «بهاء» الطفل.. ولأنه كان ذكرًا وحيدًا على أربع بنات، ضعيف التكوين ضئيل الحجم، عرف اليتم مبكرًا، فقد كان طبيعيًَا أن يكون مفرط الحساسية خجولًا ميالًا للانطواء والتأمل، وأن يتفتح نتيجة لذلك وعيه مبكرًا.. لذلك بدأ شغفه بقراءة الكتب وربما الشوارع والناس وهو فى السابعة، ليتكون من ذلك فيما بعد نمطه المتفرد الذى حاول أن يفك خيوط الغزل المتشابكة التى كانت تدفع بالأمور نحو استقطاب فيه من الحدة واللجاج والعُصاب، أكثر مما فيه من المنطق والعقل والمسعى من أجل مصلحة البلاد والعباد.

وكان قد اقترب من العاشرة حين رحل به «عبدالعال أفندى» من الإسكندرية إلى القاهرة عام ١٩٣٧: مات «الملك فؤاد» وخلفه ابنه الشاب «الملك فاروق»، ووقعت معاهدة ١٩٣٦ التى وصفها «مكرم عبيد» بأنها معاهدة الشرف والاستقلال، وعلى الفور أعلنت «الجيروند» أن دور «اليعاقبة»، وحزبهم «الوفد»، قد انتهى.

وتدهم الحرب الكونية الثانية مصر، فتبتهل قلوب المصريين إلى الله أن ينصر «الحاج محمد هتلر»، الذى كانت الدعاية النازية قد أشاعت بينهم أنه أسلم سرًا، على الثعلب الاستعمارى العجوز «ونستون تشرشل»، وينتظرون بلهفة اليوم الذى يستخدم فيه أسلحة المخزن رقم ١٣ فى إبادة الجزر البريطانية من على الخريطة، ويعود الوفد إلى الحكم، فى ٤ فبراير ١٩٤٢، بطلب من الدبابات البريطانية وفى حمايتها، وتثبت معاهدة ١٩٣٦ فى التطبيق أنها لم تكن معاهدة شرف، ويثبت الاستقلال الذى جاءت به أنه وهم، وتخضع مصر لأحكام عسكرية قاسية طوال سنوات الحرب، فتضيع- حتى فى ظل الوفد- الديمقراطية.. فى سنة من هذا الزمن المتخبط المرتبك- هى ١٩٤٣- التحق «أحمد بهاء الدين»، وكان قد جاوز السادسة عشرة من عمره، بكلية الحقوق.

كان العصر هو عصر المحامين والمستشارين والقضاة، وكانت مصطلحاته السياسية الغالبة قانونية، فالاحتلال «قضية» وطنية تحتاج إلى «وكلاء» يدافعون عنها وإلى «توكيلات» تلزمهم بـ«حدود وكالتهم»، وهى السعى لاستقلال مصر التام ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا، وكان المحامون والقضاة هم حكام البلاد وأقوى فئات النخبة المصرية نفوذًا، فمنهم يختار الوزراء والسفراء والمحافظون والنواب، وحتى تشريفاتية القصر، وكانت المحاماة هى المهنة التى حولت مجاورين أزهريين فقراء، يعيشون على خبز الجراية، وأبناءً لصغار التجار والزراع، إلى زعماء ووزراء وباشوات. وكما طمح السيد «أحمد عبدالجواد»، بطل «ثلاثية نجيب محفوظ»، لأن يكون ابنه كمال محاميًا ثم قاضيًا، فقد طمح «عبدالعال أفندى شحاتة» لأن يجلس ابنه الوحيد «أحمد بهاء الدين» فى مجلس القضاء، لكنه لم يكن فى حاجة لإقناعه بطموحه أو الضغط عليه لتحقيقه فقد خايلت أعلام العصر أحلام الفتى. استقر البحث عن مثل أعلى، فى سنوات مراهقته المبكرة، بأشواقه عند المرفأ نفسه، وكانت البداية هى شغفه بأن يتابع فى الصحف وقائع المحاكمات السياسية الكبرى التى كانت بعض ظواهر الزمن، ثم شغف بمتابعتها فى قاعات المحاكم، ليعود فيستعيد فى أحلام يقظته مشاهدها متقمصًا شخصية المحامى أو المتهم أو ممثل الاتهام، ليختار فى النهاية أن يكون القاضى الذى يزن الأدلة والقرائن ويوازن بين أقوال الشهود وحجج الاتهام والدفاع ثم يتوصل من هذا الغزل المرتبك المتداخل إلى خيط الحقيقة.

ويقوده شغفه بقراءة محاكمات الحاضر السياسية إلى دار الكتب، ليسترجع محاكمات الماضى القريب فى الصحف القديمة، ويقرأ فيها ومعها التاريخ، ليضيف إليه عمرًا جعل مقالاته الأولى تتسم برصانة ونضج أشاعا لدى من لا يعرفونه من قرائها أنه كهل عركته الأيام، وتعلم الحكمة والاتزان من الزمن الذى لم يكن قد عاش منه سوى أقل من ربع قرن. وتقوده كلية الحقوق إلى غيرها من كليات الجامعة، يحضر المحاضرات ويشهد المناظرات ويتعرف إلى جيله من البرجوازيين المصريين الصغار الذين كانوا ينتظرون انتهاء الحرب ليزحفوا من بين تناقضاتها ويواصلوا سفر خروجهم من عباءة جيل ثورة ١٩١٩، جيل المساومات والمهادنات والمفاوضات واستبدال الديمقراطية بالاستقلال: كان الوطن كما قال «بهاء» فيما بعد، ١٩٥٩، قد انقسم إلى «عالمين مختلفين.. إلى رأيين وعقليتين.. بينهما هوة سحيقة».

بين أنداده فى جيله يبدو «بهاء» حالة متفردة، إذ ندر من بينهم من اهتم بالعمل العام أو اشتغل به من دون أن يكون طرفًا فى تلك الحالة الاستقطابية الحادة التى شملت مصر فى سنوات الحرب الكونية الثانية وما بعدها. فمع أنه كان زميلًا فى الجامعة للجيل الثالث من أسرة السيد «أحمد عبدالجواد» فإنه لم يكن إخوانيًا كما كان «عبدالمنعم شوكت»، أو شيوعيًا كما كان «أحمد شوكت»، أو انتهازيًا كما كان «رضوان ياسين»، مع أنه كان، بالقطع، يعرفهم جميعًا ويسمع منهم كثيرًا. ولأنه كان مستمعًا موهوبًا، فقد كان يعود إلى حجرته ليتقمص شخصية القاضى التى شغفته، يوازن بين الحجج ويزن الأدلة ويقارن بين أقوال الشهود، ليبحث بين خيوط الغزل المتشابكة المعقدة عن خيط الحقيقة. كانت دراسة الحقوق والآداب والشغف بالوطن وبالشعب وقراءته البصيرة الملهمة لما عاصره وما لم يعاصره من التاريخ هى التى صنعت منه ذلك الكاتب، الذى حاز ما يكتبه على إعجاب المستقطبين المتمترسين عند أطراف الجهات الأصلية الأربع على امتداد أربعة عقود من القرن، على الرغم من أنه لم يكن واحدًا منهم ومع أن أحدهم لم يكن يعترف بالآخر أو يبادله الإعجاب، ومع أن العقود التى طرح فيها اجتهاده كانت كالعقود التى تكوّن فيها وعيه، عقود استقطاب حاد تغرى بالتمترس عند أحد الأقطاب.

وكان قد أدرك مبكرًا أن مرتبة «أخو البنات» التى يشغلها فى أسرة «عبد العال أفندى» لا تؤهله لأن يشترك فى المظاهرات أو فى التنظيمات السرية ليقاد إلى تخشيبة الشرطة، أو خلف أسوار السجون، فتُحرم شقيقاته من رعايته، وأن جسده النحيل وقامته القصيرة لا يؤهلانه لذلك، ولا يؤهلانه، كذلك، لأن ينضم للقضاء الواقف فيعمل محاميًا أو وكيلًا، مترافعًا، للنائب العام، فضلًا عن أنه لم يكن شغوفًا بهذين الدورين الاستقطابيين، ولأن الطريق إلى منصة القضاء كان لا يزال بعيدًا فقد اختار أن يكون قاضى أوراق، والتحق بإدارة التحقيقات فى وزارة المعارف، ثم انتقل إلى مجلس الدولة الذى انعقد له اختصاص الفصل فى مظالم الأفراد من سلطة الإدارة والحكم.

عادل حمودة: مَن ينظر لما تحقق في مصر سيتعجب - بوابة الشروق - نسخة الموبايل
عادل حمودة 

وكان قد تكون «كحقوقى» من طراز خاص، فتعلم المنطق من القانون الذى وضعت دراسته له، كما قال فيما بعد، فى صدره ميزانًا دائمًا قائمًا يزن به كل شىء.. ولم يشغف بالقانون الخاص، الجنائى والمدنى، الذى لا يُعنى إلا بالأفراد، بقدر ما شغف بالقانون العام الدستورى والدولى والإدارى الذى لا يُعنى إلا بالمجتمعات، أما دراسته للتاريخ والفلسفة ومتابعته تيارات الفكر السياسى والاجتماعى فقد أنقذته من أخطر الأعراض الجانبية التى يصاب بها بعض القانونيين وهى ضيق الأفق، فاستطاع ببصيرته النافذة أن يفرق بين القانون الذى يستجيب لحاجات اجتماعية فيتوازن به الميزان، وذلك الذى يقصر عن تحقيقها فيزداد به الميزان اختلالًا، وأن يميز بين القانون المثالى الذى يعبر عن أحلام اليقظة والقانون الواقعى الذى يصدر ليطبق، لأنه يتعامل مع الواقع لا مع الأحلام أو الأوهام.

ومع أنه كان يؤمن بأن حياة بلا أحلام لا تساوى شيئًا، فقد كان يؤمن، كذلك، بأن حياة تقوم على الأحلام هى مجرد بالونات تطير إلى السحاب وتضيع بين طبقاته.

محمد حسنين هيكل: روح جديدة في السينما المصرية * - جلـ ... منار - جلنار  Jollanar
هيكل 

وهكذا استقر منذ شبابه المبكر عند الموقف الذى اختاره لنفسه وعلى عكس كثيرين من أنداده فى جيله، ممن شاع بينهم التسرع فى اتخاذ المواقف ثم التقلب، نتيجة لذلك، بين تيارات الفكر وأحزاب السياسة. ظل «بهاء»، منذ البداية وحتى النهاية، حيث هو: وطنيًا دستوريًا وقوميًا وحدويًا وليبراليًا يساريًا يؤمن بالتطور لا بالطفرة، وبالتدرج لا بالثورة، وبتربية الشعب لكى يستطيع أن يحصل على حقوقه، ويقيم ميزان العدل بين طبقاته، عقلانيًا يرفض الاستقطاب لأنه قد يكون انحيازًا ضد الحقيقة، وما دام الأمر تعلق بالجزئيات لا بالكليات، وبالأساليب لا بالمبادئ فهو يفضل أن يكون مستقلًا، وأن يحتفظ بمسافة بينه وبين الظواهر، إذ هو يريد أن يعثر على خيط الحقيقة لا أن يكون خيطًا بين خيوط الغزل المتشابكة. وكما اختار موقفه فقد اختار موقعه.. ضاقت منصة القاضى عن أحلامه التى تجاوزت النظر فى أقضية آحاد الناس لتطرح لإقامته بين الفرد والحكومة، وبين الجماعة والمجتمع، وبين السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية، وبين الوطن والأمة، وبين الأمة والكون.. وضاق ضميره المرهف عن التفكير فى الجلوس على منصة إصدار الأحكام.. خشية أن يخطئ فيظلم أو ينحاز.. ومع أنه لم يعدل عن حرصه على نظر أقضية الناس فقد اختار أن ينظرها فى عموم الشوارع لا فى ساحات المحاكم، وأن يفكر بطريقته القانونية المنطقية العقلانية بصوت عالٍ وعلى ملأ منهم فى حيثيات الحكم قبل أن يصدره، فما يهمه ليس الحكم بل أسبابه وما يعنيه هو أن يفكر الناس قبل أن يحكموا.

ولأن صوته كان خافتًا لا يصلح للخطابة، ولأنه لم يكن موهوبًا كمحرض جماهيرى أو كنزيل سجون ومعتقلات.. ولأنه كان يؤمن بنزاهة عقلية نادرة فى التعامل مع الذات وتواضع شديد بأن كل ميسر لما خلق له، فقد اختار بإدراك واعٍ لظروفه وإمكاناته الوسيلة التى يستطيع بها أن يعبر عن نفسه، وأن يقوم بدوره فى الخدمة العامة، وقرر أن يتحدث للناس ومعهم عن طريق الصحافة لتزيد إسهاماته عبر أربعين عامًا من وضوح ملامح ذلك النموذج النادر إلى حد التلاشى بين المفكرين العرب: نموذج المنتمى غير المنحاز.

والحقيقة أنه لم يكن يرفض انحياز غيره، بل كان هو نفسه، بالقطع، منحازًا للأهداف الكبرى التى لخصت مطامح الأمة: التحرر والوحدة والتقدم والعدل.. وكديمقراطى دستورى كان يرى فى التنوع فى الآراء ظاهرة طبيعية لا يمكن تجاهلها أو إلغاؤها، إذ دونها لا يمكن، بتعبير ابن خلدون، أن يتوازن العمران البشرى. أما الذى جاء ليعترض عليه فهو تلك النظرة الواحدية الاستقطابية التى ينفى كل منها الآخر وتستدرج المنحازين- خاصة فى العالم الثالث- إلى فخها، فتتوقف عقولهم عن التفكير الحر الطليق، ويفترضون الحقيقة بدلًا من أن يبحثوا عنها. ولعل كثرة وتشعب تيارات الاستقطاب بين يعاقبة البرجوازية الصغيرة من جيله، مع افتقادها كتيار معتدل متعقل يجد الحقيقة فى المنزلة الوسط بين خطأين، هى التى دعته لكى يحاول رأب هذا الصدع، ولأن يتقدم فيحاول وزن المعادلة التى كانت واضحة الاختلال.

والحقيقة أن تيار الاعتدال والتعقل قديم فى الحركة الوطنية العربية والمصرية، لكنه كان قد جنح، منذ البداية، إلى واقعية مبتذلة واعتدال لا يتعفف عن الانحناء ولا يتوقف قبل التفريط. وكانت إعادة الاعتبار والاحترام للاعتدال والتعقل واحدة من أهم إنجازات بهاء الفكرية.

ولم تكن مصادفة أنه بدأ حياته الصحفية على صفحات «الفصول» مع صاحبها «محمد زكى عبدالقادر»، الذى ما لبث أن ترك له إدارة تحريرها ليتفرغ لرئاسة تحرير «الأهرام»، فقد كان من النمط نفسه وطنيًا حقوقيًا ودستوريًا ديمقراطيًا وسياسيًا مستقلًا ومنتميًا غير منحاز. وكانت المجلة الصغيرة منبرًا لجماعة «النهضة القومية» الإصلاحية الصغيرة التى كانت تبشر بأن النضال من أجل الجلاء والدستور لا يجوز أن يشغل مصر عن النهوض بأحوالها الاقتصادية والاجتماعية بإصلاح الأداة الحكومية وإصدار قانون للإصلاح الزراعى والتوجه نحو التصنيع، وهى أفكار تحمس لها «بهاء» وتجاوبت مع عقليته الواقعية التى تؤمن بالتطور، وترى عن حق أن الإصلاح ليس نقيضًا للثورة، وأنه إذا لم يفد فلن يضر، إذ هو على الأقل يؤهل الوطن للاستقلال ويؤهل الشعب لأن يحكم نفسه بنفسه.

ومن شهرية «الفصول» (١٩٤٨، ١٩٥١) حيث كان يغنى فى زقاق، انتقل إلى أسبوعية «روزاليوسف» (١٩٥١، ١٩٥٨) ليغنى فى سرادق ويؤسس أسبوعيته غير المسبوقة «صباح الخير» (١٩٥٦)، ومنها انتقل إلى يومية «الشعب» (١٩٥٩) فيومية «الأخبار» (١٩٥٩) ليعود إلى الأسبوعيات فى «أخبار اليوم» ثم «دار الهلال» (١٩٦٣)، ثم إلى اليوميات مرة أخرى فى «الأهرام» (١٩٧٣)، التى عاد إليها كاتبًا فى سنوات ما قبل الغيبوبة بعد تغريبة أمضاها فى شهرية «العربى» (١٩٧٦، ١٩٨٢) التى تجمع بين الأسبوعيات والشهريات فى موادها وانتشارها.

وطوال تلك السنوات كان يغنى أحيانًا فى الشوارع العمومية، وأحيانًا فى الشوارع الخلفية، لكنه ظل على امتداد العمر يغنى.

ولأن اختياره الصحافة، التى تفرغ لها بعد خمس سنوات فقط من اشتغاله بالقانون لكى يؤدى من خلالها دوره فى الخدمة العامة، لم يكن عشوائيًا، فقد كان واعيًا بمتطلبات الخطاب الصحفى الذى يتوجه إلى عموم الناس، متمكنًا من أدواته، متفننًا فى أساليبه سواء فى اختيار الموضوع الذى يكتب فيه، لأنه يثير اهتمام الناس أو لأنه يريد أن يثير اهتمامهم به، أو فى طريقة عرضه بأسلوب جميل سلس وسهل يعرف صاحبه أن الكتابة هى فن التفهيم، ويحرص على أن يفهم لكى يُفهم عنه.

وكان واحدًا من قليلين فى تاريخ الصحافة العربية كله لديهم القدرة على أن يضفوا على المطبوعة التى يرأسونها أو يشرفون على تحريرها شخصية خاصة بها، فجاءت شخصيات الصحف العريقة التى ترأس تحريرها لتختلف عن غيرها وعن شخصيتها هى نفسها من قبل ومن بعد، بل وتختلف، كذلك، عن الشخصيات التى أعطاها هو نفسه لغيرها من المطبوعات.

لكنه بطبيعته المعتدلة لم يكن يميل إلى تحقيق ذلك عن طريق الانقلاب، الذى هو فعل استقطابى لم يكن يرحب به، بل عن طريق التدرج، فهو يترك للمطبوعة شخصيتها القديمة ويضيف فى كل عدد زاوية جديدة أو رؤية مختلفة إلى أن يتم التغيير على مدى زمنى ليس قصيرًا يكون فيه القارئ قد تهيأ لقبوله.

وكان ذلك ما فعله فى «الشعب»، التى خلف «حسين فهمى» فى رئاسة تحريرها، ثم فى «أخبار اليوم» و«الهلال» و«المصور» و«الأهرام»، وقد خلف الأخوين على ومصطفى أمين أو أحدهما أو شاركهما رئاسة تحريرها جميعًا، ثم فى «العربى» التى حل فيها مكان مؤسسها الدكتور «أحمد زكى»، وكان يبرر ذلك بأن لكل مطبوعة بشخصيتها القائمة قراء ينبغى احترامهم بالاحتفاظ لهم بما ألفوه حتى تحتفظ المطبوعة بهم، وتغييره تدريجيًا بما يكسب لها مزيدًا من القراء ومن التأثير، وهو ما لا يحققه الانقلاب الذى هو رهان غير مضمون ولا ضرورة له على استبدالهم بآخرين.

ومع أن شخصيات صحفه كانت تتنوع، فقد كان فيها جميعًا مشترك من شخصيته الفنية والفكرية، ويشغلها هم واحد هو أن تصل إلى الناس أولًا، ولكى تؤثر فيهم ثانيًا، إذ لا تأثير حيث لا اتصال، فهى تجمع بين الجمال والرصانة، وبين العمق والرشاقة، وبين الفرجة والفكر، وتدرك أنها تخاطب جمهورًا واسع المدى كألوان الطيف، لذلك تتوقى الاستقطاب الذى يضيق مجال التأثير، وتحرص على توسيع هذا المجال، ليس بمعابثة غرائز الجمهور الفطرية بل باحترام عقله والتعامل مع واقعه بالبدء حيث هو ثم الترقى به بخطوات قد تكون بطيئة لكنها ثابتة إلى حيث يليق به أن يكون.

ذلك هو «بهاء» المتفرد بين أنداده فى جيله بأنه تحكم فى قدمه وفى قلمه، بل وفى خلايا مخه، فلم يتح لأحدها فرصة لكى تجنح به نحو فخ خداع النفس، ولم يتوهم فى نفسه أو يوهم الآخرين بقدرته على قلب نظام الكون، واختار الجهاد الأفضل لأنه كان الأندر فى جيله: أن يشعل شمعة.. بدلًا من أن يلعن الظلام.

 

ومع أن ذلك يبدو أسهل الخيارات التى كانت مطروحة على جيله، وأبعدها عن المخاطرة وأكثرها أمنًا، إلا أن الواقع يقول عكس ذلك على طول الخط.. فمن بين يعاقبة البرجوازية الصغيرة كان أفندية العسكر، المستقلون تنظيميًا عن كل تيارات الاستقطاب، والقريبون منها سياسيًا على الرغم من ذلك، هم الذين قطفوا الثمرة التى أنضجها الآخرون، فانقضوا فى ٢٣ يوليو ١٩٥٢ على بقايا جيل ثورة ١٩١٩ ليقتلعوه من الخريطة السياسية للوطن، ويحققوا بعض أحلام الجيل، وتنقلب أوضاع المنطقة كلها فى زمن الحرب الباردة التى زرعت فيها إسرائيل على خريطة الأمة لتفاقم من مشاكلها، ويغرى ذلك كله الجميع باستئناف مسيرة الاستقطاب، ليعود الاستقلال فيصبح نقيضًا للديمقراطية، والقومية فتصبح نقيضًا للوطنية، والوحدة لتصبح نفيًا للقنوع، والديمقراطية الاجتماعية لتصبح بديلًا عن الديمقراطية السياسية. أما الصحافة فقد تحولت من منبر يخاطب منه الرأى العام الحكومة إلى العكس، أصبحت صحافة تعبئة تحشد الناس حول السياسات بدلًا من أن تدعوهم للمشاركة فى وضعها وتشجعهم على الحوار من حولها.

 

وتجرى فى النهر مياه ودماء غزيرة، وتتعدد الانقلابات الظاهرة والخفية، إلى أن يحدث الانقلاب الثانى الكبير الذى شهده فى حياته ليأتى باستقطاب جديد، فتصبح الديمقراطية السياسية نقيضًا للديمقراطية الاجتماعية، وتصبح التنمية الاقتصادية نقيضًا للاستقلال الوطنى، ويصبح السلام نقيضًا للحقوق المشروعة.

وهكذا ازدادت خيوط الغزل ارتباكًا، ولم يعد العثور على خيط الحقيقة صعبًا فحسب بل كاد يصبح مستحيلًا، لكن بهاء على الرغم من ذلك كله لم يعدم الحيل الفنية التى تمكنه دائمًا من أن يعزف أناشيده كما أرادها، وأن يضىء شموعه بالقدر الذى يستطيعه، وبالدرجة التى لا تستفز الظلام أو تتحدى وهج الشمس الكاذبة فيتعاونان على إطفائها.

ولم يكن ذلك سهلًا، إذ الأسهل منه أن يقول كل ما يريد مرة واحدة، ثم يحمل حقيبته ويتوجه إلى أقرب معتقل، أما هو فكان عليه أن يعيش عمره وهو يسير على سلك مشدود بين قطبين، يعزف ألحانه ويوقد شموعه.. ويترك لنا ذلك النموذج المتفرد: المنتمى غير المنحاز.

من كتاب «شخصيات لها العجب»

طبعة «نهضة مصر»