رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«عبدالوهاب» يرد على «العقاد»: نجيب الريحانى رجل خُلق للسينما

مشهد يجمع أبطال فيلم
مشهد يجمع أبطال فيلم غزل البنات

محمد عبدالوهاب، والذي شارك في فيلم «غزل البنات»ــ إنتاج عام 1949 ــ آخر أعمال الفنان نجيب الريحاني السينمائية، والذي رحل دون أن يستكمله.

في هذا الفيلم وبـ«شطارته» المعهودة والتي اشتهر بها، وعرف عنه، استعان الفنان أنور وجدي والذي أنتج وأخرج وقام ببطولة فيلم «غزل البنات»، بموسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب، ليس كضيف شرف في الفيلم فقط، إنما قام بدور محرك للأحداث، بل وقدم أغنية "عاشق الروح"، والتي تعد من أشهر أغنيات الأفلام السينمائية على مدار تاريخها.

نجيب الريحاني الضاحك الباكي، يصفه الموسيقار محمد عبدالوهاب بأنه «رجل خلق للسينما»، وهو عنوان المقال الذي نشرته مجلة الكواكب في عددها السابع، الصادر في شهر أغسطس من العام 1949، أي بعد حوالي شهر من رحيل الفنان نجيب الريحاني.

يستهل «عبدالوهاب»، مقاله عن نجيب الريحاني: «كتب أستاذنا الجليل "العقاد" في العدد الماضي من "الكواكب" مقالًا افتتاحيًا ممتازًا بعنوان "رجل خلق للمسرح"، أضاف به خلودًا جديدًا لعبقرية الفنان الفقيد نجيب الريحاني».

 وقد قال أديبنا الكبير: «إنك تحاول أن تتخيله في عمل آخر غير المسرح كالسمكة في الماء بدخوله إليه وحركته عليه، وكلامه وسكونه، وإيمائه، وقيامه وقعوده، طبيعة من صميم الطبيعة تنسيك كل تكلف يحتاج إليه الفنان حتى ينتقل من العالم الخارجي إلى عالم الفن والرواية».

ويوضح «عبدالوهاب»: «وبوسعي كفنان زامل الريحاني في آخر عمل فني له وهو فيلم "غزل البنات"، أن أقول في ثقة وحماسة وتأكيد، إنني لا أتخيل الريحاني إلا مظلومًا على المسرح، فإن خشبة المسرح كانت تسرق الكثير من عبقرياته لتدفنها في جو محدود، وتطويها دون أن يشعر بها أحد، وتمر بنا مع الريح، بينما هي في إبداعها مثل عطر نادر الوجود».

وأضاف: «فإن الريحاني وجه مميز صارخ الملامح ناطق السمة، تكاد كل خلجة فيه تبرز قصة بليغة صامتة، وله لمحات تطفر من عينيه يسجل فيها أروع أحاسيس الفنان الملهم.. دمعة كسيرة، أو نظرة مرحة، أو غشاء من ترح أو فرح، يكسبه لونًا إعجازيًا قل أن يكون له نظير في العالم».

وتابع: «وكانت له أيضًا نبرة صوت فيها كل شجن الفنان، تقفز رأسًا من خفقة قلبه لتخرج من شفتيه أشبه بهمسة واهنة لا تكاد تسمعها الأذن.. ولكنها أنفاس حارة، تنفخ أجيجًا من نار في إحساس من يتتبعه».

«أقول هذا وأنا لا أكاد أتخيل شيئًا غير عدسة الكاميرا يمكن أن تسجل في أمانة هذه البلاغة التعبيرية، لتقدمها للجماهير نطقًا عبقريًا.. وأقولها وأنا لا أكاد أتخيل شيئًا غير الشاشة يمكنها أن تعرض في إتقان وأمانة وراحة هذا العالم الرحب الرائع، الذي كانت تلعب فيه شخصيات نجيب الريحاني المتعددة أدوارها المخلدة، فتقرب وتبرز لك أدق حركة من حركاتهم، وألمع لمحة من لمحاته وأرق نبرة من نبراته.. فالريحاني لم يكن جسمًا يتحرك فقط ليراه المشاهد من مقاعد الصف الأخير، أو من أعلى التياترو، كما يراه المشاهد في الصف الأول ـ ولكنه كان روحًا يجب أن تلمسها لمسًا بإحساسك، فلا تجهد نفسك معها، وإلا فشلت في تتبعها».

ويمضي «عبدالوهاب» في مقاله عن نجيب الريحاني المعنون بـ«رجل خلق للسينما»، ردًا على ما كتبه العقاد في عدد سابق أيضًا عن نجيب الريحاني في مجلة الكواكب بعنوان «رجل خلق للمسرح»: «والمسرح أبدًا لم يكن ليساعد الريحاني على الوصول بفنه إلى الكمال التأثيري على الجماهير؛ لأنه كان يعتصر نفسه اعتصارًا على خشبته لكي يصل بتأثيره إلى المشاهد البعيد، وكان يطالبه بأن يذيب نفسه تحت أقوى الأضواء لكي يقدم لك وجهه الذي يفوق أروع التحف بإعجازه القوي.

كما أن المسرح أغلق على أمجاد الريحاني وانتهي بها إلى العدم، ويمكنك أن تلمس هذا إذا مررت اليوم بشارع عماد الدين ونظرت مسرحه المغلق الذي علاه الغبار لتجد أن هناك الصمت الكئيب الذي يحوم حوله والذي يسجل فناء الفنان في قسوة بعد موته.. ولكن السينما اليوم ترفع رأسها فخورة بأنها كفيلة بأن تقدم الريحاني حيًا مجيدًا من جديد.

فهو يعيش بكل إتقان وكمال داخل مجموعة من العلب الصفيح بوجهه وجسمه وصوته وأنفاسه وحركاته، لتعرض متقنة دقيقة تحت أنظار الجماهير وأحفادها في أي وقت وزمان ومكان».

ويضيف «عبدالوهاب»: وكان هذا الشعور الذي أسجله يجول في نفسي قبل فقدنا له بشهور، فشعرت متأثرًا أن الريحاني لو توفي يومًا فلن يترك إلا أوراقًا بالية ممزقة هي مخلفات مسرحيات لن تكون لها قيمة بدونه ودون وجوده، فاعتزمت أن أنفذ مشروعًا مع صديقي وشريكي الفنان أنور وجدي وهو أن أبدأ في إحياء مسرحياته الخالدة على الشاشة البيضاء.. ولكن القدر شاء أن نقف بعد المحاولة الأولى لنا في "غزل البنات".. ولعل الفقيد العزيز كان يشعر بأنه وشيك الانتهاء أثناء عمله في هذا الفيلم، فاجتر كل قوته العبقرية التي كان يختزنها في نفسه وسجل فنًا يمكن أن نعرضه في قلب إنجلترا وأمريكا فنبهرهم به قبل أن نبهر أنفسنا».

ويلفت «عبدالوهاب» إلى: «وبودي حين يعرض فيلم "غزل البنات"، أن يشاهده الأستاذ "العقاد" ليتأكد كم أضاع المسرح علينا من فلتات الفن الإعجازي للريحاني.. فإن في الفيلم منظرًا صامتًا له وهو يتأمل السيدة ليلى مراد يحدثها فيه بتعابير وجهه، أقسم إنه سوف ينتزع التصفيق القوي من أجمد الناس شعورًا.. ومستحيل على المسرح وترتيب المسرح أن تشعرك به.. ولكن الكاميرا تواجهك به عن قرب فلا تتمالك نفسك إلا أن تهتف لهذا الفنان العبقري».

ويختتم «عبدالوهاب» مشددًا على: «أن الريحاني مات في نظر المسرح.. أما في نظر السينما فكأنه حي فيها إلى الأبد؛ لأنه خلق لها وخلقت له».