رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

انتهاك معايير المجتمع الأزرق

قبل سنوات قريبة، وصلتنى رسالة على صفحتى الشخصية بموقع «فيسبوك» تفيد بأن إحدى المواد التى نشرتها فى الصفحة تمثل انتهاكًا لمعايير مجتمعه، وتنبهنى إلى أنه تقرر منعى من التعليقات لمدة أسبوع بسببها. وعند مراجعتى المادة المنشورة، موضوع الحظر، وجدتنى أضحك بصوت مرتفع كالمجنون، فأى انتهاك هذا الذى تم اكتشافه بعد ثلاث سنوات؟ ولماذا لم ينتبه إليه أحد وقت النشر أو بعده بأسبوع أو شهر أو خمسة أشهر؟ 

كانت المادة المنشورة عبارة عن صورة للزعيم الألمانى أدولف هتلر وهو يداعب طفلة صغيرة، نشرتها قبلها بسنوات بمناسبة عيد ميلاده، وكتبت تعليقًا مصاحبًا لها، «كنت باستظرف فيه»، يقول ما نصه: «قولى لى يا نازى».

السخرية واضحة، أو يمكنك أن تقول إنها محاولة للاستخفاف أو الاستظراف عادى يعنى، ويمكنك بمنتهى البساطة أن تبتسم لرؤيتها، أو تمر عليها دون تعليق، أو تعلق عليها، فى سرك، بالعبارة الشهيرة للقدير عمرو عبدالجليل «أبو تقل دم أمك»، والتى أستخدمها بنفسى مرات ومرات عندما لا يعجبنى ما يمر قدام عينى من منشورات سخيفة لكثير من ساكنى البقعة الزرقاء.. أما أن يصل الأمر للاتهام بانتهاك معايير المجتمع الأزرق، والقرار بالمنع والمصادرة وكل هذا الكلام الكبير، فهذه مسألة غريبة جدًا، وملفتة جدًا، ومستنكرة جدًا جدًا جدًا.. فالصورة عادية جدًا، ومتداولة جدًا جدًا، وتصلح للنقيضين جدًا جدًا جدًا.. هى تصلح للسخرية من الشخص الذى يكرهه عدد كبير من البشر، وتصلح للسخرية من الإفراط فى استخدام المصطلح الذى يردده نفس العدد من البشر بكثافة غير طبيعية، واستخدامها لمناسبة ذكرى ميلاده لا يصلح كمادة للتمجيد أو الحط من شأنه، أو أى شىء.. مجرد مادة لقتل الفراغ، أو للهزار والضحك «إن أمكن» لا أكثر ولا أقل. فكيف وصلت إلى حد الانتهاك؟ لا أعرف.

المهم.. أذكر أننى اعترضت وقتها على قرار الحظر، وراسلت إدارة الموقع بتصورى الذى ذكرته آنفًا، وقلت إن المادة المنشورة لا تحتوى أى انتهاك لأى معايير، وإنها ليست أكثر من مادة للضحك، وبالفعل لم يتم تفعيل ذلك القرار العجيب، وتم إلغاء الحظر بعدها بدقائق.

تذكرت هذه القصة بالأمس عندما هاتفنى صديق أثق فى رجاحة عقله، وحسن تقديره لأمور الحياة والسياسة والثقافة والمجتمع، وقال لى إنه محظور من الكتابة على موقع «فيسبوك»، بسبب انتهاك منشور له معايير مجتمع الموقع، سألته عن «البوست» والتعليق، ثم دخلنا معًا فى نوبة ضحك طويلة، فقد كان «البوست» يخص رأيًا لطالما ذكره هنا وهناك.. يقوله ويردده جهارًا نهارًا وفى كل مكان تحط فيه قدماه، بما فيها ذات نفس الصفحة التى أحست بانتهاك معاييرها هذه المرة دون غيرها، ولم تشعر بذات الانتهاك من عشرات المقالات والصور التى نشرها قبلها، وأغلب الظن أنه سوف ينشرها ويرددها ما بقى من عمره! 

ليه بقى حدث ما حدث هذه المرة وحدها؟ أقول لك..

ما حدث لصديقى المثقف والفنان، وما حدث لى قبلها بسنوات، هو نتيجة لتقارير قامت بملئها لجان إلكترونية تابعة لجهات وجماعات وشخصيات تريد فرض سيطرتها على مجتمع «فيسبوك» الافتراضى، ونشر أفكارها وآرائها وتصوراتها هى وحدها دون غيرها فى الفضاء الأزرق، وترفض أى حضور من أى نوع لأى تصور مخالف، أو تظن أنه مخالف.

هذه الجهات تختلف وتتنوع باختلاف وتنوع مصادر التمويل على وجه البسيطة، فمنها جماعات دينية، وأخرى سياسية، أو عرقية، أو عنصرية، ومنها بالطبع لجان تابعة لأشخاص أو شخصيات عامة، وهذه تحديدًا الأكثر انتشارًا، وتفاعلًا على مواقع التواصل الاجتماعى، ويمكنك أن تلاحظها بوضوح أكبر فى مجتمع المطربين والممثلين على سبيل المثال، وغالبًا ما تكون جهات أو شركات الإنتاج هى الممول الرئيسى لتلك اللجان الإلكترونية، سواء بهدف الترويج لهم، أو الدفاع عنهم، أو الحط من شأن منافسيهم، فهم بالضبط الكيان أو التشكيل الافتراضى الموازى لمن قذفوا عبدالحليم حافظ بالطماطم فى أول حفل له، وهم من وقفوا يصفرون فى حفله الأخير، وهم من تداولوا صور الكراسى الفارغة لأحد الحفلات قبل بدئه، للحديث عن مقاطعة الجمهور للحفل.

وباختصار شديد، ومن الآخر، يمكنك ببساطة شديدة أن تقول إن هذه اللجان تقوم بما كانت تقوم به «الندابة» أو «الشرشوحة» المستأجرة قديمًا، ولكنها تمارس عملها الجديد فى العالم الافتراضى، وهو هنا لا يقتصر على «رمى البلا» أو «تقطيع الهدوم»، والسب واللعن للمستهدفين من البشر، ولا يتوقف عند حدود فكرة الترويج، أو الدفاع عن مموليهم فقط، بل يمتد إلى منطقة القمع والترهيب والتهديد عن طريق آلية التقارير المكثفة التى تبدى تضررها من أى منشور مخالف، أو حتى لا يعجب تلك الجهات، وأينما توافر التمويل توافرت اللجان، وتوافرت النية لقمع أى آراء أو تصورات لا تعجب صاحب المال، فتزداد وتيرة إرسال التقارير، وتنوع جهات إرسالها.. ولا تجد «خوارزميات الفضاء الأزرق» أمامها إلا الاستجابة لتلك التقارير التى تردها بكثافة، فتكون النتيجة هى سيطرة «شراشيح» اللجان الإلكترونية على معايير المجتمع الفيسبوكى الافتراضى، ويظن أو يتصور الجميع أن ما يرونه فى ذلك الفضاء العابر للحدود هو الحقيقة التى لا يدخلها الباطل، بينما حقيقة الأمر أنها «معايير منتهكة» بقوة وعنف، ومع سبق الإصرار والدفع والترصد.

ربما كان ذلك هو السبب الذى دفعنى منذ سنوات لاتخاذ قرارى بعدم التفاعل مع ذلك الفضاء الأزرق، أو التعامل بجدية مع معاييره، ولا استخدامه أصلًا إلا لضرورات العمل الصحفى، فلا شىء فيه حقيقى، ولا شىء فيه يخص واقع الحياة، وتفاصيلها، ومعاييرها، فلا تراجع منشوراتك يا صديقى.. فما كتبته ليس انتهاكًا إلا لمعايير مجتمع افتراضى سبق انتهاكه، وتسيطر عليه لجان «الشرشحة الإلكترونية» ومن لف لفها.. ولو إلى حين.