رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

بعد «كيرة والجن».. السينما التاريخية وعودة الفيلم الضال

 «كيرة والجن» بلغ درجة عالية من الإتقان سواء من حيث الملابس أو الديكور أو تنفيذ المعارك والأكشن

الفيلم يقدم حقائق مجهولة لأجيال هجرت القراءة ولم يعد أغلبها على علم بما كانت عليه وحشية الاحتلال

ظلت زيادة التكلفة عائقًا كبيرًا يمنع صناعة أفلام تاريخية مصرية، حيث تتطلب تجهيزات مكلّفة فى الأزياء والديكورات والكومبارس، المشكلة هنا هى عدم ضمان تحقيق أرباح تغطى تلك التكاليف، فى فترة الثمانينيات والتسعينيات اعتمد عائد الفيلم المصرى على التوزيع الخارجى فى الدول العربية خاصة الخليج، فكان الموزع يوافق أولًا على اسم النجم بطل الفيلم، ثم يمنح المنتج سلفة أو دفعة مسبقة من مستحقاته تغطى أغلب ميزانية الإنتاج، وقتها كانت قائمة النجوم المطلوبين عربيًا لا تضم سوى ٤ أسماء هم: عادل إمام، نور الشريف، نادية الجندى، ونبيلة عبيد، نفس الفترة شهدت رواج ما يسمى «أفلام المقاولات» التى كانت تتم صناعتها بميزانيات محدودة وقصص استهلاكية، تدور أغلبها حول الخيانة الزوجية وصراع العصابات لتسفر عن مجموعة كبيرة من الأفلام شديدة الرداءة ما زلنا نعانى من تبعاتها، نظرًا لتمسك عدد كبير من الفضائيات بإذاعتها.

فى قائمة الأربعة كانت المبادرة لنادية الجندى التى قدمت عام ١٩٩٤ فيلم «الجاسوسة حكمت فهمى» تأليف بشير الديك إخراج حسام الدين مصطفى، وبطولة حسين فهمى، فاروق الفيشاوى، أحمد مظهر، وأحمد عبدالعزيز، يحكى الفيلم عن الراقصة حكمت فهمى «نادية الجندى» التى ترتبط بعلاقة عاطفية مع الجنرال الإنجليزى وليام سامسون «حسين فهمى» أثناء الحرب العالمية الثانية، تستغل حكمت تلك العلاقة للتجسس عليه لصالح الألمان عبر تسريبها المعلومات لهانز إبلر «فاروق الفيشاوى» بهدف تخليص مصر من الاحتلال الإنجليزى قبل أن تتعاون مع عزيز المصرى باشا «أحمد مظهر» وأنور السادات «أحمد عبدالعزيز»، ينكشف أمرها ويتم اعتقالها وتعذيبها على يد الإنجليز قبل أن يقرروا إعدامها، وينقذها مجموعة من الفدائيين المصريين فى النهاية.

عام ١٩٩٥ قدمت نادية الجندى ثانى أفلامها التاريخية هو «امرأة هزت عرش مصر» سيناريو بشير الديك، إخراج نادر جلال، بطولة فاروق الفيشاوى، محمود حميدة، عزت أبوعوف وجيهان فاضل، يحكى الفيلم عن نهى رشدى «نادية الجندى» التى يعجب بها الملك فاروق «فاروق الفيشاوى» بعد تعرضه لحادثة تصادم، يعيّنها كبيرة وصيفات القصر، حيث تسيطر على مقاليده وتقترب من الملك قبل أن يطردها بعد اكتشاف علاقتها بالضباط الأحرار، حيث تشارك وتدعم خلية سرية مرتبطة بهم حتى قيام الثورة.

لاشك أن قيام نجمة شباك كبيرة فى ذلك الوقت ببطولة فيلمين تاريخيين مغامرة تحسب لها، إلا أن جماهيرية نادية الجندى الكبيرة داخل وخارج مصر ظلت ضمانًا أكيدًا لتحقيق أرباح كبيرة تغطى تكلفة الإنتاج، وهو ما سنلاحظه من ارتفاع تكلفة أفلامها بشكل عام، إلى جانب باقى النجوم الأربعة الأهم فى ذلك الوقت، سخاء إنتاج هذين الفيلمين لا ينفى خلوهما من المشكلات الفنية، حيث شابهما الكثير من الثغرات فى السيناريو والإصرار على تقديم قالب إثارة واستعراض ورقص، وهو ما يبدو مطلبًا أساسيًا للبطلة، بالإضافة إلى مشاهد تعذيبها فى فيلم «حكمت فهمى»، أيضًا من غير المعقول أن تغنى وترقص كبيرة وصيفات القصر الملكى تمامًا مثل العوالم فى تلك الفترة، كما لا يعقل أن تتغلغل بهذا الشكل فى أسرار الملك الذى لعب دوره بشكل سطحى وانفعالى غير مبرر الممثل فاروق الفيشاوى، وإن كان توجيه الأداء يعود للمخرج بشكل أساسى وليس الممثل.

التزوير إشكالية أخرى أشبه باتهام معلّب يطول صنّاع الفيلم التاريخى فى مصر ويوصمهم بمحاولة التشويه وتزييف الحقائق التاريخية، حيث لا يدرك الكثيرون أن الفن لا يقدم التاريخ، ولكن وجهة نظر فى التاريخ، بالإضافة إلى أن هدف الفن الأساسى هو الإمتاع من خلال الدراما أكثر من سرد الحقائق التى يظل مصدرها الطبيعى هو الكتب والمراجع وليس الأفلام، يوسف شاهين واحد من أهم من قدموا أفلامًا تاريخية جيدة مثل «شيطان الصحراء، الناصر صلاح الدين، وداعًا بونابرت، المهاجر، المصير»، تاريخيًا هناك العديد من الاختلافات بين الحقائق التاريخية وبين ما قدمه شاهين فى تلك الأفلام، حيث ظل مخلصًا للدراما التى قدم من خلالها وجهة نظره الخاصة بغض النظر عن مدى تطابقها مع الحقائق التاريخية.

يمثل فيلم «الناصر صلاح الدين» إخراج يوسف شاهين- بعد أن اعتذر عن إخراجه عزالدين ذوالفقار- نقطة فاصلة فى مسيرة الفيلم التاريخى المصرى، الأسباب كثيرة.. على رأسها أنه أول فيلم تاريخى ضخم يقدمه مخرج مصرى، حيث بلغت تكلفته ١٢٠ ألف جنيه مصرى، الذى يعد رقمًا مهولًا يقدر بأربعة أضعاف تكلفة إنتاج الفيلم العادى فى ذلك الوقت، لكن تحمّس المنتجة الكبيرة آسيا داغر للفيلم أسهم فى ظهوره بهذا الشكل المبهر، حيث كانت تشارك بنفسها فى حياكة ملابس الكومبارس، قبل هذا الفيلم قدمت السينما المصرية تجارب محدودة مرت دون تأثير يذكر مثل فيلم «شجرة الدر» عام ١٩٣٥ من إخراج أحمد جلال الذى يؤرخ له البعض بأنه أول فيلم تاريخى ناطق فى السينما المصرية، قبل أن يظهر فيلم «وا إسلاماه» عام ١٩٦١ عن قصة على أحمد باكثير للمخرج الأمريكى المجرى أندرو مارتون.

من أسباب أهمية فيلم «الناصر صلاح الدين» الذى يحتل مكانة بارزة ضمن قائمة أهم ١٠٠ فيلم فى السينما المصرية، تضمنه لـ٨ معارك كبيرة على غرار الأفلام الأمريكية فى هذا الوقت، ونجاحه فى إعادة صياغة التاريخ وتقديم شخصية البطل من خلال رؤية المخرج، بعد أن أكسبه الكثير من الأبعاد الإنسانية التى خدمت الدراما، حيث قدمه كشخصية متسامحة شجاعة تتحلى بالشهامة والتفتح والرحمة، فنراه يعالج عدوّه الملك ريتشارد «حمدى غيث» فى معسكره، وأيضًا يحتوى عيسى العوام مسيحى الديانة «صلاح ذوالفقار» كدلالة مهمة على أن صلاح الدين لا يحارب الصليبيين لأنهم مسيحيون، بل لأنهم غزاة، كما برع شاهين فى خلق خطوط درامية شيقة مثل قصة الحب بين عيسى ولويز من معسكر الإنجليز «نادية لطفى»، وهو ما أسفر كالعادة عن اتهامات متلاحقة بتضمن الفيلم عددًا كبيرًا من المغالطات التاريخية، دون الأخذ فى الاعتبار أن الدراما تقتضى إضفاء الجوانب الإنسانية على الأحداث والشخصيات لخلق عامل الجذب كهدف أول ورئيسى للفيلم السينمائى.

أبعاد مهمة جدًا قدمها هذا الفيلم تعتبر أكثر عمقًا من إضفاء الجانب الإنسانى على البطل، وهى إظهار التناقض بين حضارة الغرب القائمة على الاستعمار والبطش، وحضارة الشرق القائمة على التسامح والبعد عن الحروب إلا فى حالة الدفاع، فى هذا الإطار يتحفنا شاهين بأحد أروع مشاهد الفيلم، وربما السينما المصرية، حيث يمزج بين روح المسرح والسينما فى محاكمة الغرب للفتاة الهوسبيتالية لويز المقامة عقابًا لها على التسامح وميلها للسلام، على الجانب الذى يحاكم معسكر الشرق والى عكا «توفيق الدقن» المتلبس بالخيانة والتعاون مع العدو، كدلالة لقيام الحضارة الغربية على الغدر والمؤامرات والاستعمار وتحقيق المجد الشخصى، كما يصرح ريتشارد لصلاح الدين قبل أن يصرخ فى وجهه قائلًا له إنه يسعى لمجده الشخصى.

لغة سينمائية ناضجة وبارعة استخدمها شاهين فى هذا الفيلم، حيث نرى مزجًا معبرًا بين اللونين الأبيض والأحمر فى مشهد قتل الحجيج العزّل لمضاعفة التأثير، بعيدًا عن اللجوء إلى مشاهد قتل مغرقة فى العنف، أيضًا لقطات الأمواج الهادرة والمزج بينها وبين اجتياح جنود الصليبيين، بالإضافة إلى مشاهد المعارك الرائعة التى لا تقل عن جودة نظيرتها فى الأفلام الأمريكية، حيث استخدم شاهين ببراعته عدة أدوات مثل تثبيت الزمن وأحجام اللقطات وتوظيف الألوان.

 

علامة بارزة لنفس المخرج هو فيلم «المصير» الذى عرض فى قسم «نظرة ما» فى مهرجان «كان» السينمائى الدولى قبل أن يقدم لشاهين السعفة الذهبية عن مجمل أعماله، كعادته يقدم من خلال أحداث الفيلم إسقاطات واقعية من خلال وقائع اضطهاد المفكر ابن رشد الذى لعب دوره نور الشريف بعد اعتذار عمر الشريف عن الدور وليلى علوى فى دور مانويللا بدلًا من يسرا التى اعتذرت أيضًا عن البطولة، عرض مهرجان «كان» لم يكن عنصر التميز الوحيد فى أرشيف هذا الفيلم، بل براعة الرمز والإسقاط أيضًا، حيث يبدأ الفيلم بلقطات إعدام جيرار بريل لترجمته كتب ابن رشد من خلال محكمة تفتيش فى فرنسا، وهو ما يشير إلى أن الانغلاق كان يشمل الغرب أيضًا، حيث عبرت كاميرا شاهين ببراعة عن ذلك فى المشاهد الأولى عن طريق مزج وجوه الحشود المتابعة لعملية الإعدام، وبين وجوه التماثيل الحجرية المنحوتة فى الجبل، كناية على تحجر العقول والسلبية التى جعلت منهم تماثيل حية، الأهم أن شاهين فى هذا الفيلم يحاول أن يستشهد بالتاريخ فى إيصال معنى مهم للغاية هو أن الفكر التنويرى لا يستطيع أحد منعه من التأثير مهما بلغت محاولات قمعه، أو كما كتب فى نهايته «الأفكار ليها أجنحة، محدش يقدر يمنعها توصل للناس»، كما أن التطرف وإجهاض الفنون يؤديان إلى انغلاق ظلامى خطير وكوارث وحشية.

على عكس أفلام نادية الجندى استطاع شاهين أن يوظف الغناء والاستعراض بما يخدم دراما الفيلم، حيث نشاهد استعراضًا بديعًا من خلال أغنية «على صوتك بالغنا» التى تختزل صرخة الفيلم بالانتصار للفن والحرية، كما نشاهد على خلفيتها صراع ابن الوالى، عبدالله «هانى سلامة» بين التطرف وعشقه للفن والغناء بعد أن فك قيوده وتحرر، إلا أنه لا يزال أسيرًا للفكر الظلامى، وهو ما حرص شاهين على تقديمه، حيث قال صراحة إنه لا يرغب فى تقديم حقائق تاريخية، بل فكرة تجسّد الصراع بين الأفكار المستنيرة الحضارية وبين التطرف والفكر الرجعى المتخلف.

تتلخص أهمية تلك الأفلام فى قدرتها على تقديم الإسقاط على العصر الحالى عبر رؤية خاصة لأحداث تاريخية، وهو ما نجح فى تقديمه المخرج الكبير شادى عبدالسلام فى فيلمه «المومياء» عام ١٩٦٩ الذى يحتل المراكز الأولى فى كل تصنيفات الأفلام الأفضل فى تاريخ السينما المصرية، حيث يرصد أحداثًا جرت عام ١٨٧١ فى إحدى قبائل الصعيد التى تشتهر بالتنقيب على الآثار، على جانب آخر قدمت السينما المصرية محاولات محدودة عبر معالجات أقل عمقًا من خلال عدة أفلام منها «انتصار الإسلام» عام ١٩٥٢ إخراج أحمد الطوخى، و«عنتر بن شداد» عام ١٩٦١ إخراج نيازى مصطفى، و«المماليك» عام ١٩٦٥ إخراج عاطف سالم، قبل أن تقدم لاحقًا تجارب مميزة مثل فيلم «ناصر ٥٦» عام ١٩٩٥ إخراج محمد فاضل، و«أيام السادات» عام ٢٠٠١ إخراج محمد خان، و«الكنز» ١، ٢ عامى ٢٠١٧، ٢٠١٨ اللذين قدما برؤية مرتبكة وسيناريو مفكك أسهم فى عدم نجاحهما جماهيريًا بالرغم من مشاركة عدد كبير من النجوم فى بطولتهما.

بعد ٤ سنوات من تقديم آخر فيلم تاريخى مصرى هو «الكنز ٢»، شهد هذا العام عرض فيلم «كيرة والجن» بطولة النجمين كريم عبدالعزيز، وأحمد عز مع هند صبرى وروبى، ومن إخراج مروان حامد، لتعود به السينما المصرية لحلبة التاريخ عبر إنتاج يقال إنه تخطى ١٠٠ مليون جنيه، ليكون هو الأضخم فى تاريخها على الإطلاق، حيث تحررت الأفلام المصرية من سطوة الموزع الخارجى واستطاعت تغطية تكاليفها من الداخل بسبب زيادة عدد دور العرض السينمائى، وأيضًا انتشار فضائيات عرض الأفلام والمنصات الخاصة، مما أضاف روافد جديدة لدخل الفيلم، وبالتالى أتاح ارتفاع ميزانية الإنتاج وحشد عدد من النجوم فى الفيلم الواحد.

تدور أحداث الفيلم خلال فترة ثورة ١٩١٩ حول مجموعة من الفدائيين الذين يناضلون ضد الاستعمار الإنجليزى لمصر، يتزعمهم أحمد كيرة «كريم عبدالعزيز» قبل أن ينضم له عبدالقادر الجن «أحمد عز» بهدف الانتقام من الإنجليز الذين قتل أحد ضباطهم والده «أحمد كمال»، تنشأ قصة حب بين الجن ودولت «هند صبرى» التى تقتل على يد أهلها بسبب اعترافها بعلاقتها الغرامية، لتخليصه من قبضة الإنجليز، وتتوالى الأحداث التى تجسد بطولة الفدائيين والمصريين عمومًا لإجلاء الاحتلال الإنجليزى عن مصر.

لعدة مقاييس يعد هذا الفيلم علامة فارقة جديدة فى منحنى الفيلم التاريخى المصرى، ليس فقط بسبب ضخامة الإنتاج بل لبلوغه درجة عالية من الإتقان سواء من حيث الملابس أو الديكور أو تنفيذ المعارك والأكشن، بالإضافة إلى تضمنه عددًا من المشاهد المؤثرة، مثل مشهد مقتل والد الجن لرفضه تأدية التحية العسكرية للضابط الإنجليزى بعد أن رمقه بنظرة احتقار برع فى تجسيدها الممثل أحمد كمال، أيضًا مشهد رقص الجن مع دولت فى المخبأ وإجبار ابن كيرة على تأدية التحية العسكرية للمحتل.

الظرف أيضًا يضاعف من أهمية هذا الفيلم، حيث يقدم حقائق مجهولة لأجيال هجرت القراءة ولم يعد أغلبها على علم بما كانت عليه وحشية الاحتلال الإنجليزى لمصر وربما وجوده من الأساس، بالإضافة إلى مدى صمود وعظمة الفدائيين والشعب المصرى بشكل عام فى وجهه، فى اعتقادى هو دور عظيم افتقدته السينما المصرية منذ سنوات طويلة، لقد أعاد أخيرًا هذا الفيلم بوصلة البطولة إلى الاتجاه الصحيح، بعد عشرات الأفلام التى احتفت بالبلطجية وقدمتهم للناس أبطالًا يحتذى بهم.

الملفت هنا أيضًا هو اعتماد الفيلم على أسس حقيقية مثل شخصيات الأبطال، خاصة دولت فهمى التى قتلت بالفعل من قبل أسرتها لنفس السبب، ربما كنت أتمنى كتابة ذلك صراحة فى نهاية الفيلم على غرار الأفلام الأمريكية التى تكتب فى تتراتها أن أحداث الفيلم مبنية على وقائع حقيقية مما يضاعف التأثير فى نفس المشاهد، رغم بعض الهنات ونمطية أداء بعض الممثلين، خاصة أحمد عز، فإن الفيلم نجح تمامًا فى تقديم صورة مبهرة وجديدة على السينما المصرية، كما قدم دراما شيقة عبر سيناريو متماسك يحكى عن شخصيات لديها مبررات قوية وأهداف واضحة.