رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فى محبة فتحى الخميسى

فى أواخر تسعينيات القرن الماضى، اتصل بى المثقف الكويتى الكبير ورجل الأعمال المعروف الأستاذ محمد الشارخ يطلب منى رقم هاتف فتحى الخميسى، لم أكن أعرفه على المستوى الشخصى، ولكننى أعرف أنه أحد أبناء القديس عبدالرحمن الخميسى أحد رموز الحركة الثقافية والفنية والسياسية فى مصر لأربعة عقود، الذى يتعامل معه من عرفوه باعتباره أسطورة، اتصلت بشقيقه الكاتب الكبير الصديق أحمد الخميسى، الذى نبهنى الأستاذ علاء الديب إلى قيمته الأدبية الرفيعة قبل هذا الاتصال بسنوات.

كان الشارخ قد قرأ مقالًا طويلًا كتبه الدكتور فتحى فى مجلة عالم الفكر عن الموسيقى، أعجبه جدًا، وقام بتوزيعه على معظم أصدقائه، بعد أسابيع قليلة تعارف الاثنان فى القاهرة، وكنت موجودًا، وسعدت جدًا باللقاء، الذى كان النقاش فيه عن الموسيقى المصرية وتحولاتها، وأحببت الموسيقىّ النقى، ليس فقط بسبب علمه الغزير، ولكن بسبب خفة ظله، وبسبب ابتسامته الطفولية الرائقة التى تشير إلى قلب ناصع البياض، بعد هذا اللقاء بشهور، وفى ربيع ١٩٩٩، دعانا مؤسس شركة صخر لتقضية أسبوع فى الشاليه الذى يمتلكه على الخليج العربى، كما يحدث بين الحين والآخر، وكان المدعوون عادة الأساتذة الكبار إبراهيم أصلان ومحمد البساطى وإبراهيم منصور وجميل شفيق وجورج البهجورى وعلى أبوشادى والعبدلله، وفى هذه المرة تمت دعوة فتحى الخميسى.

حازم شاهين في وداع «فتحي الخميسي»: «تعلمت من إنسانيتك.. وحبك للموسيقى كمؤلف  أو مستمع» - بوابة الأهرام
فتحى الخميسى

عادة فى هذه الرحلة ننزل من الطائرة إلى الشاليه مباشرة، نشاهد الأفلام الجديدة، ونستمع إلى الموسيقى ونتحدث عن الأدب والكتب الجديدة، وكان البساطى يرفع علم مصر على المكان باعتبارنا أغلبية!، وجود الخميسى هذه المرة كان مبهجًا، وأضاء لنا مناطق عظيمة فى الموسيقى، لم نكن نعرف شيئًا عن الخلافات القديمة بين البهجورى والخميسى الأب، ولكنها كادت تعكر صفو الرحلة، لولا تدخلنا بين الحين والآخر إذا احتد الحوار بين الموسيقى والرسام، بعد ذلك نشأت مودة وصداقة بينى وبين فتحى الخميسى، رغم لقاءاتنا القليلة.

وحين أسندت إلىّ مهمة الإشراف على ملحق الجمعة بالأهرام، لم أتردد فى الاستعانة بقلمه الرشيق لدعم عملى الجديد، وأعتقد أن المقالات التى كتبها فى الأهرام خلال عامى ٢٠١٤ و٢٠١٥، هى أهم ما كتب فى الصحافة عن الموسيقى بعد رحيل الرواد الكبار حسين فوزى ومحمود أحمد الحفنى ومحمود كامل وكمال النجمى. نجح الخميسى «الأكاديمى» فى مخاطبة القارئ العام كأنه صديقه، وقدم بلغة لا تخلو من خفة الظل عصارة أفكاره، هو يجمع بين الموسيقى الأكاديمى الذى درس فى روسيا، وبين المؤرخ الذى تتبع تاريخ الموسيقيين وموسيقاهم، وبين الناقد الذى يحمل وجهة نظر، ليس فقط فى الموسيقى، ولكن فى السياسة والأدب والسينما، كان خائفًا على الوجدان من هجمات الغزاة، يقول دائمًا إن تاريخ الموسيقى المصرية والعربية لم يعرف تقريبًا سوى نوع واحد من الأنواع الموسيقية وهو الأغنية، التى كانت وما زالت الوجه الرئيسى للإنتاج الموسيقى، بل الوجه الوحيد تقريبًا لوجودنا الموسيقى.

أكاديمة الفنون تنعى الموسيقار فتحى الخميسى - اليوم السابع
فتحى الخميسى

ويرى أن هناك أسبابًا لتلك السيادة الطاغية، أننا بحكم تاريخ أدبى ولغوى طويل لا نستطيع أن نستسيغ موسيقى دون كلام، ونتيجة للوجود المتضخم للأغنية على حساب الأنواع الأخرى، فإن تدهور الأغنية الذى نلحظه مؤخرًا، يعنى فعليًا أن الموسيقى عندنا إجمالًا قد تدهورت وتراجعت. وما نسمعه اليوم فى مجال الأغنية من ضجيج الإيقاعات التى تفتقد للحد الأدنى من الموهبة والصنعة والفن يدفع البعض إلى الدهشة: كيف أمكن لكل هذا الهبوط والانحدار أن يعم بعد رحلة إنجازات عظيمة قطعتها الموسيقى المصرية, وبعد تاريخ حافل من إبداع حقيقى استمر لأكثر من قرن، بل بعد ظهور وازدهار ثلاث مدارس موسيقية متعاقبة؟ وكيف أصبحت الأرض الخصبة خرابًا شاسعًا إلى هذه الدرجة؟

فتحى الخميسى تتبع تمصير الموسيقى منذ منتصف القرن التاسع عشر على يد محمد عثمان ومحمد عبدالرحيم المسلوب وعبده الحامولى، وكيف حرروا الموسيقى المصرية من الطابع التركى، ليس فقط فى المقامات، بل من خلال تنحية الآلات الموسيقية والضروب والمقامات التركية، وما شابه ذلك عند فرق الأقليات العرقية، ثم ظهر أثر الجيل الأول فى الرعيل اللاحق، أى فى جيل سيد درويش الذى كما كان يقول اعتلى كالتاج جهود الجيل الثانى، وشق للموسيقى مجالًا جديدًا تمامًا هو المسرح الغنائى.­ ولم يكن سيد درويش وحده فى ذلك، فقد وقف إلى جواره محمد كامل الخلعى وداود حسنى وزكريا أحمد، بعد التمصير، ودخول المسرح الغنائى، ظهر جيل ثالث تربع على قمته محمد القصبجى الذى ولد فى العام ذاته مع سيد درويش.

وفاة الموسيقار فتحي الخميسي بعد صراع مع المرض.. وإبنته تطلب الدعاء
فتحى الخميسى

ولم يكن محمد عبدالوهاب، ورياض السنباطى- كما يرى- سوى جزء من تيار القصبجى، إذ كان أحكمهم فى الصنعة والبناء الموسيقى، وكان المثال الذى يحتذيه الآخرون فى الصياغة والبناء، كما أنه الوحيد فى الجيل الثالث الذى اشتبك بإنجاز المهام الفنية لجيل المسرحيين الأربعة السابق عليه حين وضع عدة مسرحيات غنائية، وبطبيعة الحال فإن الأجيال الثلاثة المتعاقبة «محمد عثمان، سيد درويش، القصبجى» كانت متداخلة فيما بينها من الناحية الزمنية، وأيضًا من ناحية المهام الموسيقية التى استجابت لدواعى التطور، وكان بعض أولئك الموسيقيين العظام يمثل جسرًا للعبور من مدرسة لأخرى، وواصل الخميسى التعريف بمزايا البنائين العظام، وأهمية منجزهم الفنى، الذى كان يعتبره منجزًا وطنيًا، رحل الدكتور فتحى الخميسى الأسبوع الماضى.. ألف رحمة ونور على روحه.