رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

23 يوليو.. ثورة الضرورة والممكن

انشغلت الأحزاب بقضية الجلاء فأهملت التنمية.. واحترقت القاهرة فسقط الاستثمار الأوروبى فى مصر

أنقذت «يوليو» مصر من خطة الإخوان للاستيلاء على الحكم ولو لم تفعل غير هذا لكفاها

تشابهت «٢٣ يوليو» و «٣٠ يونيو» فى أنهما أنقذتا مصر من خطر الإخوان ومعه خطر التفكك والضياع

يوليو كانت الحل الوحيد الممكن لإنقاذ مصر بعد فشل العملية السياسية بجميع أركانها «الملك- الوفد- الإنجليز»

تحل هذه الأيام الذكرى السبعون لثورة يوليو، وهى حدث تاريخى كبير، ومؤسس، حيث غيّرت شكل الحياة فى مصر على جميع المستويات والأصعدة، ولم تعد مصر بعدها كما كانت قبلها.. على المستوى السياسى أسست يوليو لشكل الدولة الوطنية المصرية التى استمرت حتى الآن بعد سقوط مؤقت وقصير على يد جماعة الإخوان الإرهابية التى أطاحت بها ثورة ٣٠ يونيو.. ثانى أعظم الثورات فى تاريخ مصر، وهى بمثابة الجزء الثانى والمكمل لثورة ٢٣ يوليو مع اختلاف الظروف.. تشابهت «يوليو» و«يونيو» فى أن الجيش كان أداة الشعب لإحداث التغيير، وأظن أنهما تشابهتا أيضًا فى أن كلتيهما أنقذت مصر من خطر جماعة الإخوان الإرهابية، التى أجتهد وأقول إنها كانت تخطط للسيطرة على مصر قبل ثورة ٢٣ يوليو.. وإن حركة الضباط الأحرار أنقذت مصر من خطر الإخوان الإرهابيين بأكثر مما أنقذتها من الاحتلال الإنجليزى أو ضعف الحكم الملكى أو فشل التجربة الحزبية.. إننى أجتهد وأقول إن كل محاولات تشويه يوليو حتى الآن ليست سوى رد إخوانى على الصفعة التى وجهها الضباط الوطنيون لجماعة الإخوان.. وأقول أيضًا إن الحكم على الثورات لا يكون بأثر رجعى.. نحن نحكم على الحدث بقانون زمنه لا زماننا وبظروف مجتمعه وقتها لا ظروف مجتمعه الآن.. وبهذا المعيار أقول إن ثورة يوليو كانت الاختيار الوحيد للحفاظ على كيان الدولة المصرية وقتها.. بعد انسداد العملية السياسية وصعود التيارات الفاشية والدينية، وإيشاك الدولة والمجتمع على السقوط فى هوة فوضى كبيرة.. فقد أطاحت الثورة بحكم الملك فاروق آخر ملوك محمد على وهو أضعف حكام هذه الأسرة وأقلهم موهبة وأسوأهم حظًا.. فقد كان أضعف من أن يكون ملكًا مستبدًا وأكثر غرورًا من أن يكون ملكًا دستوريًا يملك ولا يحكم.. ورغم أن الإنجليز دخلوا مصر بدعوة من الخديو توفيق عم الملك فاروق وابن حاكم مصر العظيم إسماعيل ابن إبراهيم باشا.. إلا أن بعض حكام الأسرة ناصبوا الإنجليز العداء، وكان منهم فاروق الذى اختار أن يتحالف مع الجانب الذى هزم فى الحرب العالمية الثانية وكان هذا أولى علامات رحيله عن المشهد.. وكان من حظ هذا الملك الصغير أنه تولى الحكم قبل أن ينضج أو يكمل تعليمه.. فراح يمارس سلطات فرعون مصرى بعقل مراهق.. وتخبط فى حياته الشخصية.. وتورط فى سلوكيات لا تليق بملك مصرى، ونتج عن ذلك انفصاله عن زوجته التى أحبها المصريون.. ثم حدثت الطامة الكبرى حين تزوجت شقيقته الصغرى دون إرادته وخرجت والدته عن طاعته.. وكان للقضية بُعد يضرب فى شرعية فاروق لدى عموم المصريين.. ثم كان حادث ٤ فبراير ١٩٤٢ أولى علامات انهيار النظام الكبرى.. حيث حاصرت دبابات الإنجليز قصر عابدين وهددت بخلع فاروق إذا لم يشكل مصطفى النحاس باشا الوزارة الوفدية.. وقد أدت الحادثة لخسارة كبيرة للملك فاروق وللنحاس باشا رغم وطنيته التى ليست محل شك، وقد كان هذا الحادث هو جذر انهيار النظام السياسى.. فلا الملك تمسك بكرامته واستقال مثل ابن عمه عباس حلمى الثانى، ولا النحاس باشا أدرك أنه يجب أن يرفض تولى الحكم بقوة المدافع الإنجليزية.. وقد خسر كلاهما كل شىء بعد هذا الحادث.. فالملك راح يسعى للانتقام بعقلية مراهق فى العشرينات.. ودبر عدة محاولات لاغتيال مصطفى النحاس.. وبعض رجال الوفد من المحسوبين على الإنجليز.. والوفد لم يعد أمام المصريين هو حزب الوطنية المصرية.. وخرج منه كثيرون ليتجهوا لجماعات مثل مصر الفتاة والإخوان الإرهابية وبعض التنظيمات اليسارية.. وقد استمر سقوط النظام السياسى عشر سنوات كاملة منذ حادث ٤ فبراير حتى قيام ثورة يوليو.. فشلت فيها التجربة الحزبية، ولم تنجح الوطنية المصرية فى استغلال ثمار ثورة ١٩١٩ فكل رؤساء الوزارات تقريبًا تفاوضوا مع الإنجليز على مدار ثلاثين عامًا، وكلهم انتهت مفاوضاتهم بالفشل، ووقّع النحاس باشا معاهدة ١٩٣٦ مع إنجلترا، ثم ألغاها من طرف واحد فى ١٩٥١.. ليحتل مرة أخرى مثلث «الإنجليز- القصر- الوفد» وهو مثلث الحكم فى مصر أثناء الفترة الليبرالية، وقد أدى إلغاء المعاهدة لإعلان مصر الكفاح المسلح فى منطقة القناة وما تلاه من مذبحة جنود الشرطة فى الإسماعيلية، ثم انفجار الغضب الشعبى الذى استغله الإخوان لحرق القاهرة.. وكان ذلك يعنى نهاية عصر رأس المال الأوروبى فى مصر ونهاية القاهرة كمركز تجارى عالمى فى الشرق الأوسط.. وكان ذلك تأكيدًا لسقوط ما قبل يوليو ١٩٥٢.. حيث عجز جيل السياسيين القدامى «جيل ثورة ١٩١٩» عن إحراز الاستقلال، وانشغلوا بقضية الجلاء عن قضية التنمية. وتدهورت أحوال غالبية المصريين باستثناء ساكنى المدن الكبرى مثل القاهرة والإسكندرية، وأدى هذا إلى صعود الحركات الفاشية مثل مصر الفتاة والدينية الإرهابية مثل الإخوان المسلمين.. الذين تم دعمهم للقضاء على الوفد فى المقام الأول، فادعوا أن الاستقلال هو قضيتهم، وكونوا تنظيمًا سريًا لإرهاب المصريين، وأسسوا الشركات التجارية الضخمة، وجندوا كل من يستطيعون من القضاة والضباط والمسئولين فى الدولة، وبدأوا فى التخطيط للسيطرة على مصر، ولم يكن غريبًا أنهم استهدفوا بالاغتيال النقراشى باشا رئيس وزراء مصر، وأحد مؤسسى الجهاز السرى لثورة ١٩١٩ الذى كان يعرف جيدًا من هم الإخوان وإلى أى شىء يهدفون، فقرر حل الجماعة الإرهابية فعاقبوه بالقتل، ثم حاولوا قتل خليفته وصديقه إبراهيم عبدالهادى الذى يملك خبرة شبيهة تمكنه من فهم طبيعة العمل الإرهابى وما يمكن أن يؤدى إليه.. وهكذا فقد كانت الفوضى والعنف السياسى والاغتيالات والاضطرابات الاجتماعية فى الريف هى عنوان السنوات التى سبقت يوليو.. وليس صحيحًا أن كل المصريين كانوا يعيشون كما يعيش سكان الربعمائة عمارة التى تتشكل منها منطقة القاهرة الخديوية، أو المئتى عمارة فى منطقة الرمل فى الإسكندرية.. رغم عظمة وجمال هذه المناطق الأوروبية التى تم زرعها فى واقع بائس وفقير مثل الواقع المصرى.. من الناحية السياسية لم يحكم حزب الأغلبية سوى ست سنوات ونصف السنة من إجمالى ثلاثين عامًا هى عمر التجربة الليبرالية، وعلى المستوى الدولى انتهى عصر الاستعمار البريطانى بعد الحرب العالمية الثانية ولم يعد مثلث «الإنجليز- القصر- الوفد» صالحًا لحكم مصر، وضرب الفساد جميع أضلاعه فى أوقات متقاربة، وكان الإخوان مثل الضباع الجائعة فى انتظار سقوط الفريسة، وكان من مفارقات القدر أن كثيرًا من الضباط الأحرار مروا على الإخوان، وخبروهم، وعرفوا دخائلهم، فاحتقروهم وكرهوهم، وكان على رأسهم جمال عبدالناصر، الذى كان يعرف عنهم كل شىء.. حتى إنه لم يكن يحتاج لمن يدله على أماكن تخزين السلاح ولا أسماء قيادات التنظيم الخاص ولا أعضائه.. فكان بمثابة شاهد الملك وممثل الادعاء فى نفس الوقت.. فاستطاع أن يشق صف الجماعة، وأن يتحالف مع فريق من قادتها معظمهم من الأزهريين «الباقورى والغزالى وسيد سابق»، فضلًا عن «عبدالرحمن السندى» مؤسس الجهاز الخاص الذى عينه فى شركة قناة السويس ورتب له حياة هادئة حتى وفاته.. أما الباقون فقد عاملهم بما يستحقون.. فاستمروا يناصبونه العداء وخرجوا من السجون بعد وفاته ليهدموا مشروعه وينخرطوا فى خطة طويلة انتهت بصعودهم لحكم مصر.. لكن جيش وشعب مصر كان لهم بالمرصاد، وأطاح بهم قائد عسكرى مصرى هو المشير السيسى.. الذى عرفهم وتعامل معهم مثل جمال عبدالناصر بالضبط.. لكنه فى لحظة الحقيقة اختار مصر ولقنهم الدرس مرة أخرى.. وما زالت الصفعة على وجوههم تثير الألم والحسرة فيتعالى صوتهم بالصراخ ومحاولات التشويه وإعادة تفصيل التاريخ ليشعر الناس بالخسارة والعدم والألم وبأن كل ما حدث كان خطأ وخطيئة وجريمة وأنه لولاه لكنا أكثر رفاهية من السويد وأكثر تقدمًا من سويسرا.. وهو عبث تاريخى محض وتلاعب بعقول الناس.. فما جرى كان هو الحتمية الوحيدة، والممكن الوحيد، وقد حمل فى داخله بذور مجده وفنائه أيضًا مثل أى حدث تراجيدى كبير يساق فيه الأبطال إلى قدرهم وهم يعرفون أنه لا فكاك لهم منه.. كانت ثورة يوليو هى الممكن المصرى الوحيد فى زمنها.. تمامًا كما كانت ثورة يونيو.. وما عدا ذلك لغو من لغو القول.. لا تعقيب عليه ولا التفات له من الأساس.