رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

قصر ثقافة أم كلثوم

أسعدنى جدًا خبر تأهيل مبادرة «حياة كريمة» لمنزل أم كلثوم فى قرية «طماى الزهايرة» فى محافظة الدقهلية.. هذا المنزل هو الذى شهد ميلاد أم كلثوم، وقد أعادت بناءه بعد أن حالفها النجاح ليصبح من دورين وأقام فيه والدها بعد أن عاد من القاهرة وترك فيها أم كلثوم وقد تحولت إلى نجمة الغناء فى مصر.. بشكل عام أم كلثوم تستحق التكريم ومنزلها يجب أن يُكرم ويصان.. لكن هذا ليس كل شىء.. هذا المنزل يجب أن يتحول لمركز ثقافى يحمل اسم أم كلثوم.. مركز يحفظ تراث أم كلثوم وتراث الغناء المصرى كله فى قلب الدلتا.. يحتوى على مكتبة كبيرة موسيقية فضلًا عن مكتبة كتب.. مركز إشعاع ثقافى فى قرية مصرية.. واحدة من ستة آلاف قرية سيطرت عليها الجمعيات الممولة من الخارج باسم مدعى السلفية.. فى كل قرية مصرية من الثمانينيات كانت هناك جمعية تدفع الإعانات للفقراء ومركز لإعداد الدعاة مهمته نشر التطرف ومسجد يعلم الناس أفكار التكفير والعزلة عن العالم بدلًا من أن يعلمهم الدين الحق.. وصيادون محترفون يتربصون بالشباب ليقنعوه بأن كل شىء حرام وأن الخلاص هو فى تدمير العالم وبنائه من جديد تحت راية «الخلافة»!.. أفكار جنونية وعدمية تم دفع مصر إليها بفعل فاعل وتدبير مدبر وتمويل ممول.. وكانت النتيجة أن ملامحنا الثقافية والنفسية تغيرت.. فلم نعد نعرف أنفسنا ولا مَن نحن.. لذلك فإن افتتاح مركز فنى فى قرية أم كلثوم هو رسالة قوية جدًا بأن مصر تستعيد نفسها.. هذا المركز لا بد أن يهتم بفنون الغناء الريفى التى قاربت على الاندثار. على «فيسبوك» صادفت مقاطع لفلاحة مصرية تُدعى «الحاجة نبيلة» تغنى أغانى ريفية رائعة.. أم مصرية تغنى بعد انتهائها من إعداد الطعام وهى تجلس على الأرض.. غناء جميل وشجى يُكذب ترهات المتطرفين حول الغناء وكونه قرينًا للانحلال أو ما إلى ذلك.. هذا فهم ذوى العقول القاصرة والمريضة.. الغناء مثل السكين.. يمكن أن تقتل به ويمكن أن تصنع به الطعام.. مثل السيارة.. يمكن أن توصلك إلى عملك أو تصدمك.. مثل أى شىء فى الدنيا.. يمكن أن يكون راقيًا جدًا أو مبتذلًا جدًا.. مثله مثل الكلام والكتابة والحديث.. إلخ.. هذه السيدة التى تغنى هى نموذج للمصرية الحقيقية.. المحتشمة لكنها ليست متطرفة.. الفنانة لكنها ليست مدعية.. المرأة المصرية العادية قبل أن يعتقلوها فى النقاب ويخرسوا صوتها.. لذلك نريد أن نرى «الحاجة نبيلة» على شاشات برامجنا.. وأن نرى تقريرًا عنها وعن حياتها وسط أبنائها وعلاقتها بالغناء. هذه القصة لها علاقة بموضوعنا الرئيسى، وهى أن قصر أم كلثوم الثقافى يجب أن يرعى المواهب الغنائية فى الريف والفلكلور الريفى.. فى الستينيات وهب الكاتب «زكريا الحجاوى» نفسه لهذه القضية.. كان يجوب الموالد ليعثر على المغنين الشعبيين «بمعايير تلك الأيام» ويقدمهم فى القاهرة.. قدم خضرة محمد خضر ومحمد طه وجمالات شيحة.. ولا أعرف إن كان هو الذى قدم المغنى الصعيدى الشهير «الريس متقال».. على مستوى آخر، قام الشاعر الكبير عبدالرحمن الأبنودى بنفس الدور مع رواة السيرة الهلالية أو شعرائها بمعنى أصح.. ذهب للصعيد وعاد ومعه «جابر أبوحسين» و«الضوى» أشهر رواة السيرة.. وقدمهما للتليفزيون والمنتديات الثقافية.. نريد أن يلعب «مركز أم كلثوم الثقافى» نفس الدور وأن يتبنى الفنانين المحليين فى الدلتا.. نريده أن يتحول لمزار لآلاف المصريين والعرب من عشاق أم كلثوم.. وأن يتحول لمتحف آخر لها ومركز لبيع الكتب والأسطوانات أو «الفلاشات» التى تحمل أغانيها بمعنى أصح.. إن هذا المركز يمكن أن يغير شكل الحياة فى قرية طماى الزهايرة كلها ويحولها إلى قرية سياحية تنتج الصناعات الثقافية.. بنفس المنطق يمكن أن تتولى مبادرة حياة كريمة تطوير بيت عبدالحليم حافظ فى «الحلوات» شرقية.. سيكون التطوير نفس الهدف ونفس الرسالة وسيحدث نفس الأثر.. أم كلثوم وحليم أصول مصرية قيمة.. يجب استثمارها وتعظيم العائد منها وإيصال رسالتها فى الفن والحياة لأجيال جديدة تبحث عن قيمة فلا تجد وتبحث عن قدوة فلا تجد.. الماضى أحيانًا يكون ممرًا جيدًا نحو المستقبل.. لذلك علينا أن نهرب للماضى ونحن نصنع المستقبل.