رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الباب المفتوح

توقفت كثيرًا عند طلب الشركة المتحدة متدربين جددًا، نشرت الشركة إعلانًا يطلب متدربين فى مجالات الإعلام والفنون المختلفة.. لا أعرف ما سيسفر عنه الإعلان، ولا كيف ستطبق الفكرة.. لا أقول لك إنها فكرة «عظيمة» أو «جبارة» أو «غير مسبوقة» إلى آخر هذه الأوصاف.. فأنا لا أعرف كيف ستُنفذ ولا عن ماذا ستسفر.. ولكنى أتوقف كثيرًا جدًا أمام المعنى من الإعلان.. إن هذا الإعلان يقول للشباب إن الباب مفتوح وليس مغلقًا.. إن هذه الشركة المملوكة للدولة مفتوحة لكل المصريين.. إن العمل فيها ليس قاصرًا على شلة مصالح ولا على المعرفة الشخصية ولا القرابة ولا الواسطة ولا المحسوبية.. إنها رسالة رمزية تقول لك تفضل معنا.. البلد بلدنا جميعًا.. إنها تلغى المسافة بين «القصر» بمعناه الرمزى و«الشارع» بمعناه الحقيقى.. إنها- ضمن خطوات أخرى متتابعة- تقول إن البلد لم يعد يُدار بالمحسوبية والواسطة ولم يعد مملوكًا لـ«شلة» معينة.. لقد كان انتشار الواسطة والمحسوبية أحد أبرز العيوب الاجتماعية التى أدت لسقوط الدولة المصرية فى يناير ٢٠١١، أو بالأحرى سقوط حكم الرئيس مبارك.. الواسطة كانت موجودة فى مصر بكل تأكيد كنظام تزكية اجتماعى، بمعنى أنها تزكية من شخص له حيثية لشاب معين لكى يقبلوه فى وظيفة معينة، أنا أقول لك كمدير شركة.. إذا كنت تثق فى رأيى فعيّن هذا الشاب على مسئوليتى لأنى أعرفه وأضمن لك كفاءته وأخلاقه.. كانت هذه هى الفكرة الأساسية التى تم ابتذالها وتدميرها مثل أشياء كثيرة فى مصر فى عصر التراجع والانحطاط.. تحوّلت الواسطة إلى باب فساد ورشوة ومحسوبية وأصبحت دون أى معايير إلا معيار المصلحة والشللية والزبائنية.. وأدى هذا منذ التسعينيات إلى غلق أبواب الأمل أمام الشباب.. وإلى تحوّل النخبة إلى دائرة مغلقة لا يدخلها سوى المعارف والأتباع بغض النظر عن أى اعتبارات كفاءة.. صحا الجميع مع بداية الألفية على خبر انتحار الطالب عبدالحميد شتا، لأنه رُفض بقسوة فى اختبارات الخارجية وقيل له إنه غير لائق اجتماعيًا.. أحس بالإهانة وبأن الأبواب مغلقة أمامه فانتحر بإلقاء نفسه فى النيل.. من الوارد جدًا أن هذا الشاب النابه كان يصلح لعشرات المهام الأخرى، كأن يكون باحثًا لامعًا، أو صحفيًا ناجحًا، أو عضو هيئة تدريس.. لكنه لم يجد من يأخذ بيده ولا يفتح الباب أمامه ولا يقول له إن الدولة تقدر أبناءها النابهين، لذلك انتحر.. كرسالة احتجاج رمزية أظن أنها كانت إحدى علامات ونذر نهاية عصر بأكمله.. فى بداية التسعينيات كانت الصحافة لا تزال مهنة مميزة، وكان العمل فيها يحتاج إلى واسطة من ذوى النفوذ.. كان الجميع يعرف هذا.. أذكر أنى كنت طالبًا فى الفرقة الأولى بكلية الإعلام، وصحبتنى والدتى من يدى كطفل لزيارة عضو مجلس إدارة فى إحدى مؤسساتنا الصحفية الكبيرة.. كان الرجل عامل مطبعة انتخبه زملاؤه ليصبح عضوًا فى مجلس الإدارة.. وكانت ابنته طالبة فى مدرسة ناظرتها هى والدتى، رحمها الله.. من الزيارة الأولى أدركت أن الرجل لا يملك أن يطلب تدريبى فى المؤسسة الكبيرة، وأنه سيدخر هذه الفرصة لشخص أقرب له.. أدركت هذا بحدسى وقتها وقلت لأمى لكنها مثل أى أم تحلم لابنها كانت تتمسك بالأمل.. بعد عدة زيارات وتأجيلات لم يف الرجل بوعده لأن دخول هذه المؤسسة الصحفية وقتها كان أقرب لدخول الجنة.. وكانت الفرص يتم حجزها لذوى القربى والواسطة إلا قليلًا.. شققت طريقى بنفسى بعدها ووفقنى الله بقدر ما سمحت الظروف، لكن القصة بقيت شاهدة على ضيق الفرص وحجبها لذوى النفوذ أو محاسيبهم أو حاملى كروت الواسطة والقرابة.. لقد أدى كل هذا لفقدان الشباب المصرى الأمل.. واستغله المغرضون والمتطرفون أسوأ استغلال.. لجأ الشباب النابه للهجرة من مصر.. واستسلم الآخرون للمخدرات أو للتطرف.. ألقى بعضهم نفسه فى أحضان الإخوان الإرهابية كوسيلة للصعود والعثور على وظيفة فى شركات الجماعة المختلفة والكثيرة، واستسلم آخرون للعدمية والإحباط.. والنتيجة كانت كما رأينا ونرى جميعًا.. لذلك أنا متفائل جدًا بالمعنى الرمزى لفتح باب التدريب لجميع الشباب المصريين فى الشركة المتحدة.. وبالخطوات الأخرى الموازية مثل فتح باب مسابقات الموهوبين فى قصور الثقافة وربما لا بد من دخول مراكز الشباب على الخط.. ومتفائل جدًا بمنتدى الإبداع وبدلالته الرمزية ودور ما يسفر عنه فى تجديد النخبة المصرية ورفدها بدماء جديدة ومواهب جديدة.. إنها رسالة تقول لكل شاب مصرى إن الباب مفتوح.. تفضل وادخل.