رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«الحقد» الطبقى و«الوعى» الطبقى

على موقع تغريدات «تويتر» تدور الآن معركة حامية.. مواطنة كانت فى الساحل الشمالى وكتبت تغريدة تعلن فيها دهشتها من أسرة تابعتها فى الساحل الثرى فوجدت أن كلًا من الأب والأم والابن يركب سيارة من أغلى أنواع السيارات فى العالم.. وقد اتهمت المواطنة من يتبع هذا النمط من الحياة بأنه ينتمى لفئة أصحاب الثروات الحرام.. وذيلت تغريدتها قائلة «آه ده حقد طبقى».. انتشرت التغريدة بدرجة مبالغ فيها، رغم أنها فى الحقيقة لا تضيف جديدًا، ولا تكشف سرًا، ورغم أن بعض أثريائنا يمارس من أنواع الإنفاق الترفى ما يفوق اقتناء سيارة فاخرة بكثير جدًا.. جدًا، وإزاء هذا الانتشار تطوع رجل أعمال وصناعة بكتابة تغريدة يلخص فيها رحلة كفاحه ويقول لماذا من حقه أن يتمتع هو وأسرته بناتج ثروته؟.. حيث روى فى تغريدته أنه بدأ مشروعًا صناعيًا فى الثمانينيات برأسمال صغير وأربعة موظفين، وكان يقتصد من طعامه مثل أى رأسمالى صالح حتى يضيف للمشروع، ويخبرنا الرجل بأن لديه الآن أربعة آلاف موظف، وأنه يصدر منتجًا صناعيًا مصريًا لأسواق العالم المختلفة وبالتالى من الطبيعى أنه يملك المليارات، ومن حقه أن يتمتع هو وأسرته بناتج كفاحه.. نحن هنا إزاء معركة سياسية واقتصادية وفكرية عميقة لخصتها تغريدتان على «تويتر» لا تتجاوز كلمات كل تغريدة منهما أربعين كلمة وفق قواعد الموقع الشهير.. والحقيقة أن كلتا التغريدتين واقعة فى هوة التضليل وعدم الموضوعية.. فلا صاحبة التغريدة الأولى تعبر عما يريده المجتمع من الأثرياء بشكل صحيح، ولا صاحب الرد عليها كان موضوعيًا فى رده أو مدركًا لطبيعة الرأسمالى الحقيقى.. أو وكأنه يريد أن يكون «رأسمالى إلا ربع» أو نصف رأسمالى.. صاحبة التغريدة الأولى تتميز بالسذاجة.. وهى مخطئة فى الدعوة إلى الحقد الطبقى رغم أن اعتراضها على الترف المبالغ فيه صحيح.. إننى أذكر أننى أعجبت إعجابًا بالغًا برجل أعمال مصرى كبير حين روى لى القصة التالية «كان قد بدأ يعرف النجاح الكبير والشهرة فى بداية التسعينيات.. وكان ما زال يسكن منزله القديم والصغير.. شاهدت زوجته منزلًا فخمًا قيمته خمسة ملايين جنيه.. فدبر لها المبلغ.. وفى اللحظة الأخيرة قرر أن يستثمر المبلغ فى بناء مصنع جديد.. غضبت زوجته وكانت مشكلة كبيرة».. هذه القصة تعبر عن رأسمالى حقيقى.. يفكر أن كل مبلغ يملكه يمكن أن يفتح مشروعًا جديدًا، يعمل فيه العاطلون، ويضيف لثروة البلاد وناتجها القومى، ويضيف لثروته هو الشخصية، التى يعيد استثمارها فى مشاريع أكبر ثم أكبر.. فى متوالية لا تنتهى، تتحقق منها سنة الله فى خلقه، وهى إعمار الأرض.. لكن المشكلة الحقيقية أن رجل الأعمال العصامى هذا عرف أن شبكات الفساد فى التسعينيات وما بعدها لن تتركه لما يفعل، فشاركها، وناسبها، وتوقف عن الصناعة، وفعل مثلما يفعل «الرومان» وحصل على آلاف الأفدنة، و«سقعها» وأغلق مصانعه.. وأخذ يعمل فى كل ما يجلب الربح السريع، مثل العقارات، وتسقيع الأراضى، وقروض البنوك، ومشاركة زوجات المسئولين، وكأنه تحول إلى إنسان آخر غير ما كان فى البداية.. إننا جميعًا نتخيل أن «الأغنياء» شىء واحد.. لكن هذه القصة تقول لنا إن الإنسان نفسه ليس شيئًا واحدًا.. وإنه قد يتحول.. ويتبدل.. ويتخلى عمّا خلقه الله له، أو عن مراد الله منه.. فيصيبه الاكتئاب رغم ملياراته الطائلة.. ويفقد ظله.. وتتحول حياته إلى رحلة من العدم يصبح فيها ميتًا وهو على قيد الحياة.. إذن فهذه المواطنة التى رفعت شعار «الحقد الطبقى» مخطئة.. لأننا كمجتمع لا نعادى الأغنياء، ولكن نريد منهم أن يكونوا أغنياء على طريقة «بيل جيتس» الذى وهب معظم ثروته للعمل الخيرى وقال إنه لن يترك ثروة لأبنائه ليرثوها.. رغم أنه واحد من أثرى أثرياء العالم.. بل إنه كشف أن مليارديرًا عصاميًا آخر هو «وارن بافيت» تبرع بعشرات المليارات من ثروته للمؤسسة التى أسسها «جيتس» للعمل الخيرى، أما وارن بافيت نفسه، فهو يرتدى ملابسه من أرخص المتاجر الشعبية فى أمريكا «كل حاجة بخمسة دولارات» ولديه نمط حياة متقشف بشكل غريب.. وهكذا نجد أيضًا أن رجل الأعمال الذى تولى الرد على مواطنة الساحل الغاضبة مارس التضليل.. فهو يقول إنه تعب وكافح وأسس مشروعًا.. وهذا عظيم.. لكنه يظن أن من حقه أن يغرق فى الترف.. وهذا كذب وادعاء على الرأسمالية الحقة.. فهذه الأموال التى تهدر فى الترف يجب أن يعاد استثمارها فى نشاط إنتاجى جديد.. يستفيد فيه هذا الصناعى العصامى من خبرته الطويلة، ومن موهبته فى الإدارة، فينمى ثروته وثروة بلده، ويتيح فرصًا جديدة للعمل، ويدفع الضرائب، ويزيد الصادرات.. وهكذا إلى ما لا نهاية.. وهذه هى الرأسمالية التى يعرفها العالم كله إلا فى مصر والدول الريعية القليلة فى العالم.. أما أن يظن رجل الصناعة أن من حقه أن ينفق ثروته ذات اليمين وذات الشمال دون إعادة استثمارها.. فهو بهذا يريد أن يكون «نصف رأسمالى» أو يأخذ خير الرأسمالية ولا يدفع ضريبتها وضريبة المجتمع الذى أتاح له النجاح ومنحه الفرصة ووفر له الأمن والاستقرار لكى ينجح.. هذا إذا افترضنا أن الجميع رجال صناعة وأن الجميع عصاميون وأن الجميع لم يتورطوا فى الاستيلاء على ثروات البلاد.. حتى إذا افترضنا هذا.. فإنه على الجميع أن يتمسكوا بقواعد الرأسمالية الحقة وأن يعيدوا استثمار ثرواتهم فى مصر لا خارجها.. هذا إذا أرادوا أن يتوقف الناس عما أسمته سيدة الساحل «الحقد الطبقى» وأنا أسميه «عدم وعى كل طبقة بدورها وما يجب أن تقدمه للبلد».