رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

خطوط مصر الحمراء

فهمى للسياسة المصرية حاليًا أنها سياسة مرنة.. غير متخشبة.. لا تميل إلى لغة الشعارات الخشبية.. لكنها فى الوقت نفسه ذات مضمون أخلاقى صلب، يعرف قيمة مصر.. ويُعلى من شأن المصالح المصرية والعربية مهما تصور الآخرون أن هناك فرصة لإغفال هذه المصالح أو فرض أمر واقع جديد.. فى ضوء هذا الفهم قرأت كلمة الرئيس السيسى أمام القمة «العربية- الأمريكية» فى جدة بمحاورها الخمسة، ورغم اللغة العملية، والاحترافية التى صاغ بها الرئيس كلمته فقد رأيت فيها خطوطًا حمراء أو ثوابت تعلن فيها مصر أن سياستها تجاه المنطقة ثابتة لا تتغير.. رغم تفهمها لمستجدات الأوضاع لدى كل الأطراف.. ولعل أول هذه الخطوط الحمراء، «وهذه تسميتى الخاصة»، هو ما عبر عنه الرئيس فى المحور الأول وهو أنه لا بديل عن الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود ٤ يونيو ١٩٦٧.. حيث اعتبر البعض أن القضية الفلسطينية قد تم حلها بالفعل! أو تم التسليم بعدم حلها.. وانطلق البعض للحديث عن تصورات ما بعد «عدم حل القضية»!! باعتباره صار أمرًا واقعًا.. وجاء البعض ليتحدث عن تصورات لدمج هذه الدولة أو تلك.. دون حل المشكلة الأساسية التى تعوق هذا الدمج من وجهة نظر البعض أو تجعله مستحيلًا من وجهة نظر البعض الآخر.. وهكذا فإن القضية الفلسطينية، وعدم نسيانها، هى الخط الأحمر الأول الذى تعلن مصر أنها لا تسمح بتجاوزه قبل حلها بشكل عادل وأخلاقى ومتوافق مع ثوابت مصر العربية. 

ولعل المحور الثانى على علاقة وثيقة بالمحور الأول.. فمصر التى لم تنس فلسطين.. لم تنس أيضًا العراق وسوريا وليبيا وغيرها من الدول العربية التى تم إفشالها بمباركة الدول الكبرى وبتخطيطها وبجيوشها المباشرة فى بعض الأحيان، وغير المباشرة فى أحيانٍ أخرى.. ولعل مصر هى الدولة الوحيدة التى نجت من هذا المخطط الجهنمى بفضل وطنية جيشها وولائه لشعبه ويقظته للمخاطر التى تحيط به.. وهكذا طالبت مصر بتعزيز دور الدولة الوطنية ذات الهوية الجامعة، والحفاظ على مقدرات الشعوب والحيلولة دون «السطو عليها» أو سوء توظيفها.. من خطوط مصر الحمراء أيضًا ذلك الفهم الخاص بالأمن القومى العربى.. حيث أشاع البعض أن الرئيس الأمريكى جاء لقيادة حلف عربى ضد إيران!! وغير ذلك من تصورات إما أنها غير حقيقية.. أو أنها تخص أصحابها.. أما موقف مصر فقد عبر عنه المحور الثالث من خطاب الرئيس السيسى الذى أكد أن الأمن القومى العربى كل لا يتجزأ، وأن ما يتوافر لدى الدول العربية كفيل بتوفير الإطار المناسب للتصدى لأى مخاطر تحيق بالعالم العربى.. وأن مبادئ سيادة احترام الدول، وعدم التدخل فى شئونها الداخلية، والإخاء، والمساواة.. هى التى تحكم علاقات الدول العربية بعضها البعض، وعلاقاتها بجيرانها.. أما خط مصر الأحمر فى هذا المحور فهو ضرورة إخلاء المنطقة من أسلحة الدمار الشامل، وعدم التسليم بحق بعض الدول فى امتلاك أسلحة الدمار وكأنه حق مسلّم به، وأن علينا أن ننتقل منه لما بعده.. دون أن نحل القضية الأساسية التى استدعت الصراع، ودون أن تتخلص الدول التى تملك الأسلحة النووية من أسلحتها هذه، وهو ما لا توافق عليه مصر وتذكّر الآخرين به فى مناسبة مهمة مثل هذه المناسبة.

أما الخط الأحمر الرابع فقد قالت مصر فيه، سواء للولايات المتحدة أو لغيرها من دول العالم إن مصر وهى تسعى للقضاء على الإرهاب تعلن أنه «لا مكان لمفهوم الميليشيات، والمرتزقة، وعصابات السلاح فى المنطقة، وأن على داعميها ممن وفروا لها المأوى والسلاح والتدريب وسمحوا بنقل العناصر الإرهابية من موقع إلى آخر، أن يراجعوا حساباتهم وتقديراتهم الخاطئة، وأن يدركوا بشكل لا لبس فيه أنه لا تهاون فى حماية أمننا القومى، وما يرتبط به من (خطوط حمراء)، وأننا سنحمى أمننا ومصالحنا بكل الوسائل».

أما الخط الأحمر الخامس فهو الخاص بالأمن المائى، حيث أشار الرئيس السيسى إلى «أهمية تجديد الالتزام بقواعد القانون الدولى الخاص بالأنهار الدولية، بما يتيح لجميع الشعوب الاستفادة من هذه الموارد الطبيعية بشكل عادل، وضرورة صون متطلبات الأمن المائى لدول المنطقة، والحيلولة دون السماح لدول منابع الأنهار بالافتئات على حقوق دول المصب». 

.. كانت هذه قراءتى الشخصية لكلمة الرئيس السيسى بمحاورها الخمسة التى رأيت فيها خطوطًا حمراء تعلنها مصر التى لا تخذل يدًا امتدت لها للسلام، ولكنها تمد يدًا صلبة وخشنة لا يدًا لينة يسهل عصرها.. فمصر هى مصر مهما مر الزمن وتغيرت الظروف.. ذلك أنها تؤمن بأنه لكل مقام مقال، ولكل حادث حديث، ولكل زمن رجال.