رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عمرها يزيد عن 45 عاما.. قصائد لم تنشر للشاعر أحمد عبيدة

أحمد عبيدة
أحمد عبيدة

عن عمر 34 عامًا، اختار الشاعر الشاب أحمد عبيده الرحيل بالحوش الخلفي من داره الريفية  بقرية العمار الكبرى، وفي نهار 6 أغسطس 1974 أعد طريقه للرحيل، إذ اختار أن يكون عصفورا جريحا للنار، ليرحل عبيدة الشاعر ويترك لأبناء العمار الكبرى قصة لشاعر ومناضل ثقافي يرون تفاصيلها وتعيش بينهم، ويرددون ما وصل إليه من أشعار الفتى الذي كان يجيد ثلاث لغات: الإنجليزية والروسية والفرنسية، شاع أن النار لم تودي بحياة الشاعر فقط، بل أخذت معها أوراقه ومنجزه الشعري.

وعلى عكس الشائع كان لرفاق ومحبي وأصدقاء أحمد عبيدة رأي أخر، فقدموا للمشهد الثقافي العربي ديوانه الأول بالعامية المصرية، والذي جاء تحت عنوان "ربما يستيقظ النهر"، ولم يتوقف أصدقاءه ومحبيه عن البحث والتنقيب وجمع قصائد أحمد عبيده، حيث صرحت  شوقية الكردي أحد اصدقاء الشاعر الراحل أحمد عبيدة بأنهم بصدد نشر ديوانه الثاني والذي سيصدر قريبا.

وتنفرد «الدستور» بنشر قصيديتين من  نصوص الديوان الجديد للراحل أحمد عبيدة:

 

الوردة العذراء

 

عرجت إلى الروض عند السحر وقد غسله نورٌ غمر

سرت زفزفات الريح  كي تنثره بين كروم الضباب

وتصغي..وتصغي لناي المطر

تحلب في الشروق ضرع الضياء

فثرثر باللبن الأبيض وصب أباريقه في الطسوت

فكان الغسق يرش حبيباته في الحقول

يبعثرها فوق عرف النخيل وفوق الدوالي

ضلوع النهود.. النهود الثمر... وفوق المراعي ..

عذارى السحاب.. عذارى المطر

دلفت إلى الروض عند السحر

وقد نقه الأرض بزباز ضوء... بقارورة الله خلف النجوم

على شطها اللانهائي ... تنهض فلاحة من كفور النجوم

 

فرشت جفوني في الأفق تلّة نمت فوقها وردة جنب فلّة

جذورهما التحمت في التراب فمالا برأسيهما كالصحاب

تعانقا تحت بوح السحاب كطفلين من رحم واحد

تغذيهما نطفات الربيع بأحشاء أمهما المُرضعة

هي الأرض حبلى.. وفي كل شبر لها مَرضعة

 

نظرت إلى الوردة الغافية تنام على المرج والساقية

وحقل تطّرز بالحِنطة وحافاته وارفة الخضرة

يدبجها أنمل آلهي يرقّشها ويحلي سطورها

دنوت من الوردة الغامضة وطافت برأسي الرؤى

وروحي تمتص أنفاسها كأني بأرض الهنود البعيدة

تنز.. وترشح في جانبيها.. جرارٌ عتيدة

تفوح الرياح.. رياح الأريج.. أريج المباخر

تطلسمه في الأواني الرقاق.. تعاويذ ساحرة

نظرت إلى الوردة الغافية كطفل الأمير

تغلفه شرنقات الحرير وقطن الربى  أبيض كالضحى

بلوزٍ قشيب كأقماع سكّر كنوَّار مِشمشةٍ حين تزهر

تفرست في الوردة العارية فلاحت كحورية ساقية

بفردوس رب محب لمست وريقاتها النائمة

"كبوذا" يرتل في هينمة

أروتك  "إيزيس" بالخمرة؟ من الشفة البضة الناعمة

أم أن دم الكبش.. كبش الفداء تناثر فوق الوريقات فاتّشحت بالرشاش

تهب الرياح بذكرى الدماء فيظهر طفح بفروة سيقانها الراعشة

فتنموا.. وتحبوا الصغيرات في قبعات .. على خوصها أثرٌ من رشاش

أم الشمس عند انفجار الدجى في خلايا الضياء

سقتك اندمال شرايينها ولعاب المساء ..

أيا وردتي أنت يا غامضة

وكانت برأسي الرؤى

سيأتي الصغار 

إذا ما توضأت من لبن الفجر قرب الصباح

ويعبث بالعود طفل شقيٌّ كثير المزاح

وقد يسحق العود كاللعبة

تشيعه كفن البصقة

يقولون إنك صائدة للفراشات من واحة في السماء

يقولون إنك أخت " ديانا " 

فهل تعشقين ذئاب البشر

ستفتض حبكتك المريمية

ستكشط صبغتك الإلهية

مخالب بصمتها الآدمية

ستدمغ تيجانك السندسية

تفرط في أهدابك الحلمات

وتسفح أكسيرها فوق تل القمامة

فهل تعشقين ذئاب البشر؟

 

وفي عطلة الصيف سوف يزور القرى والتلال

أناسٌ ليستنشقوا عبق الأرض ..

يريحوا الرؤوس على صدر أم ..

تعاني النفاس

وقد بشنقت جيدها بالظلال

ستمرح سوسنةٌ في الخلاء

ويلعب في الطين جروٌ صغيرٌ

ويبني المسلات فوق الحصى.. وقصور الرمال

أصابع شهوته النمنمية 

ستجتز حمرتك البابلية

لترشقها فوق صدر أنيق

فتسطع سترته كالشروق

 

وقد يعبر التل عند الظهيرة

من الإنس أعمى مريض الحواس

فيحرم أجفانك الخضر من غفوات النعاس

وتمنحك الفأس نوم الأبد

ويقصف ساقاً حذاءٌ أشد

 

ستغزو الغنيمات

عند انفتاح مراح الصباح

وكبشٌ..يعربد..ياوردتي..مدمن للنطاح

سيبلع عودك في بطنه

فتمسين عصفاً وشيئاً يزاح

أيا وردتي أنت يا غامضة

ستقلب تربتك النابضة

غلاظ الرجال

معاولهم تستفز الجبال

تذبح صبية نبت 

تشرنق بين فروج التلال

تعبر خضر الربى للطريق

وترصفه شركة كالحة

بجير وقار وزفت وطين

ومجد وقار صفيق

 

أيا وردتي أنت يا غامضة

أما ترهبين سيوراً من الصلب تمشي

تكركر فوق ضلوعك .. فوق الظلط

ومنجل أعمى تعفّن إحساسه.. فهو رمّة

ولكن تسير ..

تعشش في بؤرة الصدر عثة

فمرتعها مخصّب بالشرور

 

ستصعقك العجلات الضخام

لماكينة شكلها كالظلام 

ستسحقين ويلعكك النعل.. نعل الزَّحام

وأحشاء كبش طويل القرون

ستمسين فيها كذَرَّ الطحين

 أيا وردتي أنت يا غامضة

سيول الأذى وطوفانه اندفعت فائضة

وإني نوحٌ ولا عاصم.. فهل تبحرين؟

تعاليّ ..

سمائي مطعمة بالبحيرات 

في مائها تستحم النجوم

سمائي مبطنة بالقطيفة

تحيك السرادق أنفاس فجر

يدخن بيبته القرمزية

تعاليّ ..

ففي البيت عندي طابية من زجاج

ستحضن خصرك في لهفة 

كنهدٍ يفور قبيل الزواج

ستطرد عنك جيوش الصغار

تصب لك الماء كل نهار

فلا تعطشين

ولا تشتكين

                     للهو الصغار

ستحميك آنيتي الذهبية

من الفأس والعجلات الغبية

أيا وردتي ..

تعاليّ ففي القصر عندي آنية من فخار

تبلسم خدش الفؤوس

تزمزم كأس الحليب ولسع الشرار

سأسقيك ماء نقيا مثلّج 

ماشربته الرَّبى والبطاح

تنديك خمرٌ رحيق الصباح

وإن شئت ريق الصبايا الملاح

 

أيا وردتي أنت يا غالية

أراك تخافين من آنية

أحتى مجرد ذكر الأواني 

يثير بك الرعب يا غامضة

فيهرع عودك للغلة الغضة الحانية

أتخشين فرقتها الآتية

يلف ذراعا ويلوي ذراع

ألا فاطمئني يوم الفراق.. اطمئني

فإني سآخذها كالرفيقة

لتؤنس بين الستائر في حجرات الرخام الرقيقة

وإن شئت بين أصاصي الحديقة

تميل عليك كأخت صديقة

أيا وردتي أنت يا غامضة

أمازلت رجفى من المزهرية

لأوهام سجن تزم عليك بأقفالية

أهل تكرهين أواني الذهب

وزرق الستائر مجدولة بالقصب

تمدد.. نام بقلبي مسيح 

وبجبهته زبيبة 

فهل تنكرين؟

دمائي تمور كشلال نور 

أما تلمحين؟

وبين ضلوعي ملاك المطر

يفرد أشرعة السحب في كل عرق يدر

فإن تجفلين من المزهرية

سأجتث أصلك في ثانية

لأني أخاف فؤوس الرجال

وأيدي الصغار.. وكعب النعال

وأمقت أسنان كبش سفيه

تبدت لعيني منشار يجرش كأس الزهور

وأعشى الجنازير ليات أفعى تفح الشظايا

وماكينة الرصف مطحنة البرعمات الصبايا

كالحة الزهر أم المنايا

سأجتث عودك يا وردتي الطيبة

فلا تحزنين..

سأنزعه دفعة واحدة

فلا تشعرين

وثم.. وثمة قد تنعمين

بنوم كنوم الشعاع البريء

بجرف البحيرة عند المساء

يؤرجحه الموج مثل سرير النبي الرضيع

يغط بأرجوحة من وبر

سأستأصل الجذر ياوردتي

فلا تعتبين

لأنك أنت من الخالدين

ستحيين بمخيلتي أبد الآبدين

فؤادي صومعة سليمان 

سر الطيور

ولما هممت بقطع الوريدة

سرت في كياني قشعريرة

   وشحنة رعدة

وهمهمت الوردة الغامضة 

كأن المدقات في قبضتي قروي شديد

تهاوت تخشخش في عظمه

 وتطرق حتى دماء الوريد

فخارت مفاصل أقداميه

تفككت كالزَبد

وأطرقت أصغي إلى الغامضة

ــ حرام عليك.. فلا تقتلني

فإني عذراء فلا تهتكني

بربك دعني

أترضى لأختك أن تهتكن

أظنك لن ..

وإني بكرٌ فلا تسلبن من عروقي البكارة

أنا بنت مريم قد أودعتني كنوز العفاف

فلا تنتهبها ..

ولا تخمشن ما ائتمنت عليه 

فأمسي كخائنة للنبوة

فيكتشف الأمر يوم الزفاف

زفافي إلى فردوس السماء

 

فدعني لتنسج لي الشمس طرحة من ضياء

وتحملني الريح فوق الأراجيح كل عشاء

أغني.. وألعب كيف أشاء 

أعاكس بيت الفراشة

أرتق عيني وشيلاني الصفر ذات النَّضارة 

وأعقص قصتي الفستقية

فيذكر ـــ إما يراني ـــ 

شيخٌ سنيناً مضت بين حضن العذارى

أخدّر أعصابه كالسكارى

فينسى الخريف وأوراقه الذابلات العتية

ويصهل مثل الحصان الفتي لذكرى فتية

وينسى المقابر

وليل يصفر فيه المقابر

أيا يوسف الشعر لا تفضحني

عسى ينشق العطر

ناي يغني مثل مزمار أم العروس

عسى أن ترشف اللون ريشة بوص

عسى أن يحج إلى حرم الربوة الأخضر

إله الفنون

فيركع في مذبحي في فتون

يلحن أغرودة البائسين

عسى أن يطوف في كعبتي شكسبير حزين

فيكتب مأساتكم أجمعين

سيبعث " هومير " في مئزريك.. يسطر ملحمة للسنين

وينقش بالنار.. بالدم إلياذة الضائعين

 

بربك صُنّي

وإن تقطّعني أيادي الصغار

سينسيني اللهو وخز البوار

فأبسم في عروة الأبرياء

كجنية من بنات البحار

صدراً طرياً حنون

وأشرق في هدأة من سكون

وأعمى الحواس

سيصحو.. وينشله العطر من وهدات النعاس

فيحرث أرضي ويمنحني حفنة من مياه

فتخضر أوراقي الصفر حين تموت الحياة

أريجي مباضع شمسٍ تفتّح قلب مريض الحواس

فيجري بجنبيه نور الإله

وإن رأيت خيوط الضياء 

تتموج في نبع الأفق

تتهدل من مفرق شرق

كفؤاد طفل مفعم بالضياء

 

الواعظ والراعي والقطيع

 

كان الواعظ يملأ ردهات المسجد بالآيات

عن قطع يد السارق

عن حرَّاس جهنم

وزبانية النار

فتبسم لصٌ جائع

واندست يده نحو حذاء الواعظ

انسل من الصف الأول

تحت عباءة نوبة قيء مكتومة

نادى في الأرض منادٍ :

أين حذاء الواعظ؟

أين؟ ..

قد سرقه الحافي في ساعة عسر

هذا الواعظ يسرق حتى الكحل من العين

أنا أعرفه ..

هو شيخ النشالين بحي الأزهر

هو يسكن (درب سعادة)

 

حين يفوح الصبح 

يصير الواعظ قسيساً راهب

يسكن برجاً من عاج

حين يفوح الصبح

لكن في خصلات الليل الفحمية

ــ من هذا المتأبط رابعة العدوية؟

ــ من هذا القواد؟

ــ أنا قسيس القرية!

 

حلقوا شعر المومس

وعلى باب زويلة

علّقها القاضي من ثدييها

(هذا القاضي يعشق خادمته)

مخدعه السري سجادة قصر

مخدعه في أعلى البيت!

 

 

ثدي المومس ينقر فيه الطير

وعيون جوّفها منقار غراب

صدرك يا داوود المتفحم رائحة خراف مشوية

عظمك يصطك كطارة دولاب 

يا داوود نبي الله

 

 

 

لا ماء..لا عشب في الحقل

لا شيء سوى وحل معجون بالدم

يا صبيان التل

حوشوا الحملان عن الزرع الأخضر

في الدائرة المغلقة يدور الحقل الأخضر

كيف سنعبر للشط؟

أين الأجنحة المرشوشة بالعنبر

أين القنطرة المرشوشة بجرار حليب

أين؟!

في المنعرج الأيمن.. 

يرتفع المعبر مرشوشاً بالدم

أوما ثمًّ طريق إلا جثة كبش

ما ثمًّ سوى درب فرشته أشلاء خلية نحل

وبقايا طفل!

قلب الراعي يفرخ فيه الطير

تتواثب فيه الحملان

حوشوه..وإلا أرسلنا في الكبش وباء الطاعون

وذباب اللعنة

حوشوه..فإنا نحن المبعوثون من الجنة

كيف سنعبر للشط

وخيوط دعاءٍ على خيط حليب

تتشابك في ضرع البقرة

أين المصفاة؟

لننقي حلمات البقرة

ناب الذئب تسلل في الجزع إلى عنق الثمرة

كيف سنعبر للشط؟

ــ هاهي ذي القنطرة المغسولة بدماء ذبيح 

من عظم الكبش الميت يخرج زهر الرمان

نوَّار المشمش في الطين يفوح

فلنعبر يا حملان إلى الفجر المصلوب على عود الرمان