رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عز أبويا

«أنا عايش فى عز أبويا».. هذه أصدق جملة تعبر عن علاقتى بأبى.. وعز أبويا ليس أموالًا وأطيانًا وطوبًا وأسمنتًا.. عز أبويا الحقيقى هو حب الناس.
عز أعيش فى نعيمه، حتى وإن كان عنوانى على بُعد 5 ساعات سفر منه منذ ما يقرب من ربع قرن، يطولنى رحيقه عبر كل الوسائل وآخرها عبر رسائل الواتساب، فأصبح من المعتاد أن أستيقظ على رسالة من رقم غريب، مضمونها عبارة عن فيديو لأبى، وهو يؤذن الفجر، صوّره خلسة أحد الشباب لهذا الرجل السبعينى الذى يسبقهم جميعًا فى فتح المسجد، حتى فى أصعب الليالى مناخًا.
وهذا رقم آخر لا أعرفه أيضًا يرسل لى فيديو لأبى، وهو يقرأ القرآن بتجويد كامل فى إحدى ليالى رمضان.. صوره هذا الشاب حبًا للرجل وأرسله لابنه المنفى فى قاهرة المعز دون سابق معرفة.. لعل هذا الشاب أدرك أن مثل تلك الرسائل هى زادى لمواجهة قسوة الحياة فى تلك المدينة الكبيرة.. أرد على الرقم المرسل بالشكر والامتنان الكبير لصاحبه الذى اقتطع من وقته وجهده لكى يصور ويرسل لى ما يسعدنى.
...
خرجت من بلدتى الصغيرة مع بداية هذا القرن، وأنا اسمى الحركى الذى يضمن لى السلامة والاحترام «ابن الحاج جلال فراج»، وأعود حتى الآن فى زياراتى المتباعدة للبلد وألجأ لنفس الاسم الحركى، عندما أدخل أى محل أو مكان داخل المدينة، وأضطر إلى تعريف نفسى للسائل الذى «يشبه عليا».
فقط أنا ابن الحاج جلال فراج.
كلمة سحرية تجلب الاحترام والحب من ضمن رصيد ضخم بناه «أبويا» عندما حط رحاله مع أمى فى بلدتنا الصغيرة «الحمام» فى يوم من سبعينيات القرن الماضى.. كانت حينها المدينة ليست أكثر من منطقة صحراوية جدباء، يتخللها تجمعات سكنية بسيطة أغلب سكانها أتوا مثلنا بحثًا عن حياة جديدة بعيدًا عن «خنقة» النيل بواديه ودلتاه، ليستقر الجميع بجانب أهل البلد الأصليين من بدو مطروح الطيبين، وينتج عن هذا مزيج إنسانى رائع واستثنائى.. النسب قرب الجميع، البدوى أصبح خال الصعيدى، والصعيدى صار عمًا للفلاح، والاثنان زوّجا بناتهما وأولادهما للعرب أو البدو.
ووسط كل ذلك، احتفظ أبى بشخصيته الفريدة المحبة المعطاءة لكل الناس، عم جلال تلك الكنية التى التصقت فى فم الجميع، فهو عم الكل، مشاكل الجميع هى مشاكله.. رحابة صدره تتسع لمن يريد أن يحكى، أو يفضفض لمجرد الفضفضة.. لم أعهد له مرة مشكلة مع أحد، ليس ضعفًا ولكنه يقينًا أن الحق لا يحتاج لجعجعة فارغة ولا فرد عضلات.. هو الشخص الهادئ الودود الحكاء الذى يجذب إليه شبابًا من أعمار أولاده وأصغر ليجلسوا إليه يوميًا فى مجلس سمر صنعه أبناء كثيرون ممن يقولون له عم جلال.
عندما أسأل أمى عليه عبر الهاتف تقول ليه قاعد مع الشباب.. أضحك وأقول لها «اوعى يعلموه شرب السجاير ياحاجة ولا يجيبوله عروسة».
أصبح أبى بالنسبة لهم هو ريح الماضى الطيبة، التى يستنشقون فيها عطر الأحبة الراحلين، آباءهم وأعمامهم الذين كانوا رفاقًا لعم جلال.. يتركون له زمام الحكى ليحكى عن الأيام الحلوة. وقت أن كان الحب والمودة هما سيدا الموقف.
لا يسعنى إلا أن أشاركهم دعواتهم له بطول العمر ووافر الصحة، حتى يستمر فى عطائه، وأستمر أنا في التنعم بعزه الذى لا ينقطع.