رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

يعنى إيه ملحق ثقافى؟

لا أعرف لماذا تذكرت فجأة أنه توجد لدينا وظيفة مهمة جدًا- أو هكذا أتصور- اسمها «الملحق الثقافى»، وهذه المهمة من المفترض أن يقوم بها عشرات من الأساتذة المخضرمين من شباب وكوادر الجامعات المصرية، من السلوم إلى أسوان؟.

ولا أدرى ما الذى جعلنى أربط بين هذه الوظيفة وما يحدث لنا وللعالم كله الآن من تغيرات حادة ومؤثرة تهدد البشر والحجر.. ولسنا ببعيدين عن هذا العالم، وما يحدث فيه.. بل بالعكس نحن أول المتضررين مما يحدث؟.

تذكرت فجأة أن هؤلاء «الملحقين» المنسوبين إلى العلم والثقافة لم يكن لهم أى دور مؤثر أو حتى هامشى فى أزمة كورونا.. ولم نشعر بهم على الإطلاق منذ بداية الأزمة الروسية الأوكرانية، وحتى هذه اللحظة.. وقد يقول أحدهم: وهل ذهبت أنت خارج البلاد لتعرف إذا ما كانوا قد أدوا ما عليهم أم لا؟.. وهذا سؤال صحيح ومنطقى.. لكن القادمين من هذا الخارج، وما أكثرهم هذه الأيام، وشكاواهم التى لا حدود لأسئلتها التى تحتاج لإجابات عاجلة هو ما دفعنى للسؤال من الأصل عما نملكه من مقومات بشرية نحن فى أشد الاحتياج لها الآن فى هذه الأزمة الفاصلة.

لقد كشف بعض التقارير أننا نعتمد- فى الظروف العادية- وبشكل كبير على تحويلات المصريين بالخارج.. وفى الظروف التى يمر بها العالم حاليًا والتى أثرت على اقتصادات معظم دول المنطقة، ونحن فى المقدمة منها، ذهب خبراء اقتصاديون إلى دور هؤلاء المصريين بالخارج.. بل إن بعض هؤلاء الخبراء نصح بضرورة التعامل بشكل جدى ومختلف معهم لاستنهاضهم ودمجهم فى الحالة المصرية، وحثهم على إنعاش «صندوق» الاقتصاد المصرى فورًا.. حيث لا وسيلة أخرى سوى الاعتماد على «مال طازج» لا نعرف كيف يأتى أو من أين؟.. وهو الأمر الذى دفع أحدهم إلى كتابة مقال كارثى مطلع الأسبوع الماضى يبشرنا فيه، على طريقته، بسيناريوهات غبية لا تطرح أى تشخيص واقعى للأزمة، ولقدراتنا فى مواجهتها، وإن أفرطت العنان لخيال سقيم يذهب بنا إلى ما يسميه «الهروب الكبير» أو «النزوح الجماعى»، برًا وبحرًا للشرق والغرب.

وبعيدًا عن الاشتباك مع ما أراه أطروحات «هوجاء» ومع افتراض حسن النوايا.. أجدنى مدفوعًا إلى أبناء مصر فى الخارج.. وهنا لا أقصد بعض المغتربين عنا قولًا وفعلًا.. هنا أتحدث عن ملايين المصريين الكادحين المحبين الذين لم ينفصلوا يومًا عن بلادهم وعما فيها.. فى الفرح والحزن.. هؤلاء الذين يخدمون الآخر أيًا كان موقعه واسمه لأنهم أصحاب تجربة وقدرة.. من أول العامل البنّاء فى الفاعل، حتى كبار الأطباء والعلماء والمهندسين، وقد عرفت عددًا كبيرًا منهم فى أهم مؤسسات أوروبا.

التعامل المختلف الذى يطلبه بعض الاقتصاديين مع ملف «تحويلات المصريين» فى الخارج، ومعهم ومع مشكلاتهم، هو الذى أرغمنى على محاولة البحث عما يسمى بالملحق الثقافى.

هناك أزمة حقيقية فى علاقة من يتولون هذا الدور- هذه «المهمة»، ولا أقول الوظيفة- والمصريين فى الخارج.. لقد سألت أحدهم منذ أيام، وقد جاء فى إجازة استقطع منها أسبوعًا كاملًا للبحث عن عروض الشركات فى العاصمة الإدارية، حيث إنه يرغب فى استثمار بعض ما لديه- وهو المقيم فى دولة الكويت منذ سنوات، ويعمل فى وظيفة مرموقة بمؤسسة حكومية- وحكى لى أنه شاهد العجب فى «العاصمة».. وقبل زيارته لها كشف عن أنه لم يكن يعرف شيئًا عنها سوى ما يذاع عبر برامج التليفزيون سواء بالمديح فى قنواتنا، أو الذم والتشويه فى القنوات الخارجية.

صديقى هذا.. وقد حصل على وحدة سكنية بالفعل.. فاجأنى بأن العاملين بسفاراتنا بالخارج هم أنفسهم لا يعرفون شيئًا عما يجرى فى مصر، فضلًا عن الترويج لها وتسهيل مهمة من يريد من المصريين استثمار مدخراته فى المشروعات الجديدة وما أكثرها.. فلما سألته عن «الملحق الثقافى» فى سفارتنا هناك، فما كان منه إلا أن سألنى: «وهو ده بيعمل إيه.. ثم أنا ما كُنتش جاى أشترى كتب؟!».

وأضاف: عمومًا موظفو السفارات لا يفعلون شيئًا لنا على الإطلاق.. وإذا ما أقاموا حفلًا لمناسبة وطنية فهم يوجهون الدعوات لمعارفهم من أبناء الدولة التى يقيمون بها.. نحن لسنا على أجندتهم من الأصل إلا عند حدوث مشكلة كبرى.. وغالبًا يتدخل فيها السفير نفسه.. ولا علاقة بهذا الذى تسميه «ثقافيًا».

وعندما بحثت فى الأمر.. وجدت أن معظم الملحقين الثقافيين يتم اختيارهم عبر وزارة التعليم العالى.. ومعظم هؤلاء لا يمارس دورًا سوى فى الإشراف على الامتحانات فى بعض المدارس التى يدرس بها طلاب مصريون.. وهذا هو «جل دورهم».. فلا ثقافة ولا ترويج ولا يحزنون.. وأخبرنى بعض المصريين بالخارج بأن معظم هؤلاء يذهبون إلى هذه البلاد باعتبارهم فى «إعارة»، يجمعون بها بعض الأموال لتحسين ظروفهم المعيشية ليس أكثر، وبعضهم يقيم أو يشارك بعض رجال البيزنس فى البلاد التى يعملون بها.. أما حكاية الثقافة والترويج لنشاطاتنا وحضارتنا واقتصادنا، فلا دخل لهم بها.

لجوء عدد كبير من المصريين بالخارج إلى تحويل أموالهم عبر وسطاء ومكاتب لا علاقة لها بالبنوك هو أمر ثقافى بالأساس.. والترويج لما يحدث فى بلادنا ودمج المصريين بالخارج أمر ثقافى وعلمى بالأساس.

لقد طرحت الحكومة، على سبيل المثال مؤخرًا، شققًا فى مشروع عين الصيرة الجديد بمميزات رائعة للمصريين فى الخارج.. فهل علم المصريون بالخارج شيئًا عن هذا الأمر؟.. لم يحدث.. ولن يحدث.. وقد يعرف بعضهم بالصدفة وقد لا يعرف.. هذه الفجوة الكبيرة تحتاج إلى تدخل عاجل.. ومسألة اختيار الملحقين الثقافيين عبر وزارة التعليم العالى تحتاج إلى مراجعة عاجلة أيضًا.

من المؤكد أن هناك خيارات أخرى للتعامل مع ملف تحويلات المصريين بالخارج.. والبعض يطرح مشروعات قوانين لتيسير بعض الإجراءات المعقدة فعليًا على الأرض، والتى تمنع معظمهم من التعامل الجدى مع ما تطرحه الحكومة من حوافز استثمارية.. وقبل ذلك وبعده.. تحتاج إلى خطاب إعلامى مخالف لذلك الذى طرحه المبشر بالنزوح الجماعى والهروب الكبير.. هل يُعقل أن يفكر مصرى.. أو عربى.. أو أجنبى فى الاستثمار فى بلد يروج البعض بأنه مُقبل على هروب كبير؟!