رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الإرهاب فى الساحل الإفريقى.. انقلابات لافتة وإرادة جديدة

لسنوات وربما لعقود مضت، لم تصافحنا مثل تلك الأخبار الإيجابية فى ملف حالة الإرهاب بمنطقة الساحل الإفريقى، الذى ظل طوال فترة زمنية ممتدة هو المهدد الرئيسى والأخطر على معادلات الأمن، بل والسياسة والحكم، فى غالبية دول تلك المنطقة، وامتد كثيرًا لجوارها الإقليمى بالتداعى والانتقال، حتى صار معضلة حقيقية استلزم أكثر من مرة تدخلًا دوليًا فى محاولات لحصاره أو القضاء عليه دون جدوى. بطبيعة النشاط الإرهابى مر بالعديد من التحورات والانشقاقات، فضلًا عن تبدل الولاءات وعقد التحالفات المحلية مع المكونات الانفصالية المسلحة- عن الدول- ومع مجموعات الجريمة المنظمة النشطة والقادرة فى تلك المناطق.

الأخبار الإيجابية التى خرجت من هذه المنطقة الشاسعة أخيرًا، أنه وبعد قرابة ٧٠ يومًا من انطلاق عملية موسعة لمكافحة الإرهاب المسلح، شاركت فيها قوات من أربع دول إفريقية من منطقة الساحل هى «نيجيريا والكاميرون والنيجر وتشاد»، فى كيان عسكرى أطلق عليه «قوة المهام المشتركة متعددة الجنسيات» ضمت نحو «٣٠٠٠ عسكرى» من الدول الأربع.

تمكنت تلك القوة عبر عدد من المهام البرية والجوية والبحرية؛ من تحييد «٨٠٠ إرهابى» تابعين لتنظيمى «داعش» و«بوكوحرام»، فضلًا عن تدمير والاستيلاء على ٤٤ مركبة و٢٢ دراجة نارية، وأعداد كبيرة قدرت بالآلاف من الأسلحة الثقيلة والخفيفة، كما تمكنت من تدمير عشرات الأماكن التى ظلت تستخدم لسنوات فى صناعة العبوات الناسفة بما فيها مواد شديدة الانفجار.

هذه العملية الموسعة بدأت فى ٢٨ مارس الماضى، وسميت بـ«لاك سانيتى» «سلامة البحيرة» وفق نطاقها وامتدادها الجغرافى، الذى استهدف فى المقام الأول بحيرة تشاد والجزر الموجودة بها ومناطق الغابات المجاورة لها، كونها ظلت ملاذًا آمنًا تسمح للمسلحين بالاستقرار فيها، وشن الغارات المتتالية انطلاقًا منها على أهداف مدنية وعسكرية، أصابت كل البلدان المشاركة فى العملية وغيرها من دول الجوار، ومن ثم العودة للاستقرار بها مرة أخرى باعتبارها ملاذًا مثاليًا بعيدًا عن قدرة الأجهزة الأمنية المحلية فى السيطرة عليها.

التاريخ الحديث لتلك المنطقة مع النشاط الإرهابى، تطور بصورة فادحة مع اندلاع هجمات تنظيم «بوكو حرام» فى شمال نيجيريا عام ٢٠٠٩، فقد سبقها بعض أفرع تنظيم «القاعدة» التى كان أشهرها ما سمى بـ«قاعدة بلاد المغرب العربى»، لكن ومع تواجدها خلال حقبة زمنية سبقت بوكو حرام إلا أن هدفها الرئيسى ظل هو بلدان الشمال الإفريقى، وتحديدًا ليبيا وتونس والجزائر والمغرب كما هو واضح من تسميتها «المغرب العربى»، ولذلك تحركت فى مناطق دول الساحل باعتبارها مسارات للمرور وأماكن للإفلات من ملاحقات دول الشمال الأمنية، وكعادة الظاهرة الإرهابية نقلت خلال هذه الأنشطة الثانوية قدرًا من التأثير، فى بيئات كانت مهيأة لاستقبال مثل تلك المؤثرات، بل وتطويرها والمضى بها قدمًا إلى مساحة متقدمة من التوحش والعنف. وهذا بالضبط ما جرى مع تنظيم «بوكو حرام» الذى استلم راية العمل المسلح، مع الحفاظ على انتمائه العقائدى لتنظيم «القاعدة»، مما أتاح له الاستحواذ على ميراث كبير استغله فى إنتاج موجات متتالية وفادحة من العنف غير المسبوق الذى تعكسه تقارير الأمم المتحدة التى تقدر أعداد القتلى من ضحايا «بوكو حرام» بـ٣٦ ألف شخص فى نيجيريا وحدها، ولو أن الإحصاء شمل كل دول الساحل الإفريقى لربما شارف الرقم لحدود الـ«١٠٠ ألف ضحية».

لكن يظل هناك ثابت يمثل تداعيًا جسيمًا لهذا النشاط الإرهابى المستجد الذى تنامى بصورة انعكست على حياة المدنيين، حيث وصلت بأعداد النزوح لرقم استثنائى ضرب نيجيريا ودولًا جوارها، بما يفوق «٣ ملايين» نسمة غادروا منازلهم هربًا من تلك الفوضى القاتلة، التى دمرت حياة مدن وقرى ومناطق بكاملها. هذا الأمر صنع حالة مستعصية من الخلل فى الأنظمة السياسية لتلك البلدان، واستدعى فى كثير من فصول تلك الموجات الإرهابية الاستعانة بحملات دولية، شاركت الولايات المتحدة فى بعضها، وأسهمت فرنسا فى العديد منها أيضًا قبل مغادرتها الأخيرة، بعد أن زادت التعقيدات وارتفعت فاتورة التكلفة الاقتصادية والسياسية عليها بأكثر مما تحمل، فقررت أن تفصل الرباط التاريخى مع بعض بلدان الساحل، على الأقل فى سياق التعاون الأمنى ومكافحة الإرهاب والتهديد المسلح. فمخاطر هذه الجماعات الإرهابية تتزامن وتتقاطع مع ارتفاع معدلات الفقر والبطالة، التى توفر أرضًا خصبة لتجنيد عناصر جديدة وسط استغلال مثل تلك الجماعات لاحتياجات السكان وصراعاتهم فى آن واحد. كما لا تبتعد الظاهرة المعقدة كثيرًا عن صراعات النفوذ للدول الكبرى، ففرنسا بعد أن خرجت من دولة مالى تمكنت مؤخرًا من الحصول على موافقة النيجر على السماح بنشر قوات فرنسية لمحاربة الجماعات الإرهابية، مما يشكل تحديًا لروسيا التى تأمل حاليًا فى توسيع مساحات نفوذها بالساحل الإفريقى على حساب باريس. فالأخيرة تحاول قطع الطريق على الوجود الروسى فى منطقة الساحل الذى بات قويًا، حيث أصبحت شركة «فاجنر» المسلحة الروسية رقمًا لا يمكن تجاوزه، بعد أن نشطت بقوة فى عدد من الدول الإفريقية قبل أزمتها الأخيرة مع أوكرانيا، خاصة فى إفريقيا الوسطى ومالى بوجود مستقر وحجم نفوذ فاعل مستمر حتى الآن.

لسنوات كانت الانتقادات الأمنية تنصب فى اتجاه غياب التنسيق الأمنى بين قادة وأجهزة دول غرب إفريقيا، مما يقلل قدرتها على إحراز النتائج الكاملة فى هزيمة الإرهاب المدجج بالسلاح والإمكانات البشرية؛ ولذلك أعادت جيوش البلدان الأربعة وكذلك بنين، تنشيط القوة متعددة الجنسيات، التى أنشئت فى عام ١٩٩٤ وأصابها الترهل والانقسام مما أفقدها القدرة على تحقيق النتائج، واليوم فى العملية الأخيرة تحاول استعادة زمام المبادرة والعمل الجماعى بغية حصار التهديد، والهجوم على معاقله لتدمير قدراته التى تطورت بعد الدخول على خط الانتماء لتنظيم «داعش»، وهى النسخة الأكثر شراسة وقدرة من «بوكو حرام» وأبعد من حيث تخطيطها للبقاء الدائم، ليس فى نيجيريا وحدها بل داخل كل البلدان المتشاطئة على بحيرة تشاد. ورغم هذه النتائج الإيجابية الأخيرة فإن الحرب ما زالت طويلة وممتدة، فالنسخة الجديدة التى ورثت وانشقت عن «بوكو حرام» لن تستسلم بسهولة ولديها مخزون بشرى وتسليحى يحتاج لمزيد من عمليات المجابهة الموسعة.

فهذه المجموعات المسلحة لديها قراءة دقيقة لما يحدث، وتدرك أن عليها اعتماد خطط مضادة لعملية توحيد جهود دول الساحل، وربما كان نموذج ما جرى مؤخرًا فى بوركينا فاسو معبرًا عن هذا التوجه إلى حد بعيد. فمنذ أسابيع وخلال العملية المشتركة الخاصة ببحيرة تشاد؛ قتل حوالى أربعين من المتطوعين الأمنيين والمدنيين فى شمال وشرق بوركينا فاسو، فى ثلاث هجمات منفصلة نفذها مسلحون تابعون لتنظيم «داعش» فى رسالتى إرهاب وترويع شرستين لضمانة عدم انضمامهم للعملية المشتركة.

العملية الأولى جرت فى المنطقة الحدودية الجنوبية الشرقية القريبة من حدود توجو وبنين، والثانية على مراكز الدرك والشرطة فى فارامانا قرب الحدود مع مالى، والثالثة استهدفت قافلة مدنيين متطوعين، ليصل التنظيم برسالته لكل الأطراف، وتتناقلها سكان تلك المناطق الحدودية، لتقول بإصرار إنها ستخوض معركة التهديد فى ساحات بديلة فى حال ضربت منطقة البحيرة، فهى قادرة طوال الوقت على استحداث ساحات جديدة أكثر هشاشة من سابقتها