رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

داود عبدالسيد.. قدرات غير عادية

٩ أفلام روائية ضمن أهم أفلام السينما المصرية طوال تاريخها قدمها داوود عبدالسيد، الحاصل مؤخرًا على جائزة النيل فى الفنون: «الصعاليك، الكيت كات، البحث عن سيد مرزوق، أرض الأحلام، سارق الفرح، أرض الخوف، مواطن ومخبر وحرامى، رسائل البحر، وقدرات غير عادية».

الدرس المهم هنا هو أن المكانة يشكلها الكيف وليس الكم، بالإضافة إلى أن الرواج الجماهيرى السريع ليس معيارًا للقيمة، فبينما بحث فيلم «الكيت كات» ٤ سنوات عن تمويل لتنفيذه، تم سحب فيلم «البحث عن مرزوق» من دور السينما بعد أسبوع من عرضه.

اليوم وبعد مرور كل تلك السنوات، لماذا لا تزال تلك الأعمال تنبض بالحياة فى ذاكرتنا؟ الإجابة المحددة صعبة، ربما هى مجموعة من الأسباب أهمها وضوح القصص لتلك الأفلام وثراء الدلالات المتروكة للمشاهد، وهو ما يفسر تجدد التأويلات عند كل مشاهدة لأى منها.

فبينما يناقش فيلم «الصعاليك» الصعود الطبقى لبعض الفئات كخلفية لمرحلة سياسية محددة، يقدم عبدالسيد فى أفلامه «أرض الأحلام» و«أرض الخوف» و«مواطن ومخبر وحرامى» رحلات رمزية نكتشف من خلالها سيكولوجية البطل المسافر دون أن يكون السفر انتقالًا مكانيًا بالمعنى المباشر، ولكن سفر داخل النفس بالمعنى الأشمل والأكثر عمقًا فى مواجهة اليأس والعجز وكبت الحرية.

فنرى نرجس «فاتن حمامة» فى «أرض الأحلام» انتصرت لرغبتها فى البقاء على أرضها والتخلى عن السفر إلى أرض الأحلام، دون أن يكون المقصود هنا رفض الهجرة بقدر ما هو انتصار الإنسان لحريته وقناعاته، وهو ما يؤمن به الشيخ حسنى «محمود عبدالعزيز» فى «الكيت كات» الرافض لعجزه والمقتنع طوال الوقت بأنه مبصر، فى معالجة عظيمة لرواية إبراهيم أصلان عبّر عنها المخرج العبقرى فى معالجة مذهلة ومشاهد معبرة، مثل مشهد نقل الشيخ حسنى جسد عم مجاهد بعد وفاته، وغيره.

لقد هضم النص الأدبى، وحوّله لمنتج جديد سينمائى بامتياز، كما يقول فى أحد حواراته: «أعتقد أن الاقتباس من الأدب لا بد أن يشبه الافتراس؛ بمعنى أن حيوانًا مفترسًا يأكل حيوانًا آخر ثم يحوّله إلى طاقة فى جسمه يستفيد منها لكنه لا يُقسّمه إلى أجزاء ويعيد ترتيبها، بالمعنى ذاته أظن أنه يجب التعامل مع النص الأدبى بكل حرية فى فهمه وإعادة تقديمه بشكل مختلف».

للرمزية فى أفلام داوود عبدالسيد أبواب لا توصد، فبينما يمثل يحيى أبودبورة فى «أرض الخوف» (أحمد زكى) جيلًا كاملًا تم تهميشه، يرمز شريف المرجوشى «شعبان عبدالرحيم» فى «مواطن ومخبر وحرامى» إلى الجهلاء الذين سيطروا على مقدرات الثقافة المصرية فى فترة من الفترات، فأسلموا الفنون، وكبّلوها فى موجة من السطحية والقمع، هناك أيضًا يوسف كمال «نور الشريف» فى «البحث عن سيد مرزوق» المعبر عن تخاذل الطبقة المتوسطة وشل حراكها بقيود تكاسلت عن فكها، وهو ما عبّر عنه فى مشهد من أعمق ما جاء فى الفيلم حين شاهدنا يوسف مكبلًا فى الكرسى مستسلمًا لقيوده التى تم فكها بمجرد محاولته لذلك. 

تخوض شخصيات داوود عبدالسيد رحلة شاقة فى كل أعماله، حيث تطرأ عليها تغيرات جذرية لوعيها وإدراكها فى النهاية، فبينما ينجح يحيى «آسر ياسين» فى «رسائل البحر» فى الانتصار على الوحدة والشعور بالعجز، يكتشف يحيى المنقبادى «خالد أبوالنجا» فى «قدرات غير عادية» مسارًا جديدًا لحياته، كما تنتصر نرجس فى «أرض الأحلام» لحريتها، متمردة على رغبة أبنائها فى هجرتها للحصول على جنسية أرض الأحلام.

يعشق داوود عبدالسيد صناعة المكان وإكسابه المزيد من الدلالات، فهو على عكس المخرج محمد خان العاشق للتصوير الخارجى فى الشوارع الحقيقية، يفضل عبدالسيد بناء الديكورات مستعينًا بإحدى أيقونات عالمه، وهو مهندس الديكور القدير أنسى أبوسيف الذى صمم ديكورات معظم أعماله بمهارة لا يسهل معها الاقتناع بأن حى الكيت كات مثلًا مصنوع بالكامل فى الفيلم الشهير، وهى براعة تضاف إلى قدرات مخرجنا غير العادية