رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

براعة الروحانيات فى «جزيرة غمام»

مضى عيد الفطر المبارك، كل عام وأنتم بخير، وخلال شهر رمضان الكريم شاهدنا ما يقرب من ٣٥ مسلسلًا مصريًا تتناول موضوعات عديدة، قدمت فيها رؤيتى النقدية لأبرز ما تم تقديمه فى وجبة الدراما الرمضانية الدسمة والمتنوعة خلال الشهر، وأواصل فى هذا المقال سلسلة مقالاتى التى اعتدت أن أقدم فيها سنويًا، خلال شهر رمضان الكريم، للقارئ رؤية نقدية لأبرز ما يتم عرضه خلال الشهر الكريم، لأنها تكون وجبة دسمة، من ملامح الشهر الكريم وطقوسه السنوية التى يقبل على مشاهدتها المصريون، ويتنافس خلال الشهر الكريم صناع الدراما والمنتجون والفنانون لتقديم أفضل ما عندهم، وأركز على مسلسل «جزيرة غمام».. ثم أختم السلسلة برؤية سريعة لمسلسل اجتماعى خفيف هو «أحلام سعيدة».

إن «جزيرة غمام» هو حالة خاصة جدًا لما تضمنه من الروحانيات والرموز والأفكار التى تحمل معانى ومضامين عميقة نفسيًا وسياسيًا وإنسانيًا، وفى تقديرى هو من أنجح الدراما الرمضانية خلال الشهر الكريم، وأكثرها تجديدًا، وأكثرها دعوة للتفكير المتعمق فى الأحداث والحوارات والروحانيات التى تنقلنا إلى أجواء نبيلة وعالية، وهو قد حظى بنسبة مشاهدة عالية وشغل المشاهدين وانشغل معظم من شاهده بفهم رسائله وما وراء حكاية الجزيرة وأهل الجزيرة».

ويمكن أن أقول إن المسلسل هو أشبه بحلم شفاف يراه الإنسان من خلال غلالة شفافة رقيقة بإضاءة خافتة حالمة ويستمد منه الروحانيات، ما يجعله يتدبر فيما حوله بعد ذلك، وفيه عبر، وفيه إسقاطات سياسية، وفيه أيضًا مشاهد وراءها مغزى، تعكس فكر الكاتب، الذى يستعين بجو التصوف المفضل لديه، والذى يعكس إلمامه بمفرداته ومعانيه، والذى قدمه من قبل فى مسلسلى «شيخ العرب همام والخواجة عبدالقادر»، من بطوله الفنان الكبير يحيى الفخرانى، وفى جزيرة غمام نجد الفهم البسيط للدين، والبعد عن التسلط من خلال الدين، وفيه معان تحتاج إلى فهم الفكر الذى يكمن وراءها.

«جزيرة غمام» يمكن بكل وضوح أن أقول إنه ينقلنا إلى حالة خاصة جدًا من الروحانيات، ويصلح لأن يحدث فى أى مكان وزمان، وهو فى منطقة روحانية شفافة، يقف فيها بمفرده مشرعًا أفكاره بين زخم المسلسلات التى قدمت فى شهر رمضان المبارك، ويختلف عنها جميعًا، ويشغل المشاهد بفك معانيه فى عالم متخيل للكاتب القدير عبدالرحيم كمال.

تدور أحداثه بداخل إحدى قرى الصعيد منذ ١٠٠ عام بعد الاحتلال، ونرى الأغراب بعد وفاة الشيخ يأتون إلى الجزيرة؛ للسيطرة على أهل القرية والتفرقة بين أهلها والتأثير عليهم وأخذ مغانم منها، ورسم الكاتب الشخصيات بحيث تجسد لنا الصراع المحتدم بين الشر أو الباطل الواضح المجسم، الذى يمكن أن يكون الشيطان ذاته مجسدًا فى شخصية «خلدون»، وهو من لحم ودم، وهو يأتى من الخارج باحثًا عن السيطرة على المكان ويرتدى ملابس غريبة تشبه ملابس الأجانب الغرباء عن أهل الجزيرة الأصليين ومعه «العايقة»، التى تتميز بالجمال ومحاولة التأثير على نساء القرية ورجالها وليس لها هدف، إنما هى تريد من يحميها، ونرى الشر أيضًا متمثلًا فى «محارب»، الذى يعتقد أنه حامى حمى الدين، ومن خلاله يستمد قوة ويرى أن من حقه حماية الدين بالقوة وبالسلاح أيضًا.

ويستمر الصراع بين الخير والشر، أو الحق والبراءة التى تجسدت فى شخصية «عرفات» ذى الكرامات، الذى يعتقد أهل الجزيرة فى كراماته عندما يخترق السور مع مجموعة من الأطفال، وهنا اختار الكاتب الأطفال، أى البراءة والنقاء والأمل، فى اللجوء إلى مكان أكثر نقاءً وبساطة، ودون موبقات أو صراعات، وأيضًا نرى الصراع بين الإخوة بسبب الطمع والتقاتل على المغانم، ثم فى لحظة نرى التفرقة السافرة فى المعاملة قبل أن يموت شيخ القرية «مدين»، إذ يفرق فى الإرث بين مريديه الثلاثة، وتتأتى كلمة «الحمد لله» ممن ورثه الشيخ مسبحته فقط ليسبح بها، وليس ممن ورثه مكانه للإمامة فى الأذان أو ممن ورثه المسجد، وهنا أيضًا يتجلى معنى رمزى أن «الحمد لله» قد تكون على أبسط الأشياء وليس على النفوذ أو الممتلكات أو المغانم، وفى رأيى أن هذه الحكاية توصل رسالة أساسية هى أنه مهما طال الشر ومهما كانت حيلته وقوة تفكيره فإنه يمكن أن يتم القضاء عليه لو اتحد أهل الخير معًا للقضاء على شروره وخطاياه، إلا أنه من ناحية أخرى فإن الحكاية ليست بهذه البساطة، إنما هى يمكن أن تكون كما يريد أى مشاهد إسقاطها على الحاضر، فيمكن أن نشبهها بالدول العربية التى تفرق بينها الصهيونية والمكائد، إلا أنه لو اتحد العرب لأصبحوا قوه ضدها تقضى على أطماعها فى المنطقة، ويمكن أن تكون قدرة الشر هى الولايات المتحدة الأمريكية، التى تحيك المكائد للمنطقة العربية لتفتيتها ولنشر الفرقة بين دولها وبناء السور العالى بينها وبين إسرائيل.

إلا أن اتحادًا للدول العربية يمكنه القضاء على المؤامرة الكبرى لنشر الفوضى فى المنطقة العربية من خلال خطط الخريف العربى، ويمكن هكذا إسقاط الحكاية على كثير من الأحداث المعاصرة، ووفقًا لخيال كل منا، وهذا مما يعد فى تقديرى فكرة رائعة تجعل كل مشاهد يبحث عن المعنى بشكل فردى ومن خلال التفكير، وليس من خلال التسلية فقط، ويتضمن المسلسل أحداثًا مثيرة تشد المشاهد لمشاهدتها كما فى الأساطير الإغريقية القديمة، ففيها أيضًا السحر والشعوذة وضرب الودع وأحداث فيها اللا معقول، مثل اختراق السور، ونرى مشهد نهاية الشر بقتل خلدون على يد عدد من أهل الجزيرة بطعنات متتالية، وهذا المشهد يذكرنى بمشهد تاريخى حقيقى حدث فى روما القديمة وجسده فيلم كليوباترا الذى أنتجته هوليوود، وقامت ببطولته إليزابيث تايلور، وأقصد به مشهد مقتل قيصر روما يوليوس قيصر على يد أعضاء مجلس الشيوخ الذين أرادوا الخلاص منه، فاجتمعوا وطعنوه بالسيوف عدة طعنات متتالية حتى سقط مضرجًا فى دمائه.

وكان يوليوس قيصر قد وقع فى غرام كليوباترا، الملكة المصرية شديدة الجمال، وتمادى فى غرامه إلى حد أنه أنجب منها ابنًا ونصبها إمبراطورة وأحضرها لتزور روما عاصمة الإمبراطورية الرومانية ذات الجبروت والقوة الغاشمة فى مشهد مهيب آثار حنق المقربين منه، وأراد حينها أن يستأثر بالسلطة والثروة والنفوذ فقرروا الخلاص منه، وفى الحلقة الأخيرة، هناك مشهد لا ينسى عندما يهب إعصار مدمر على الجزيرة فتنهار البيوت التى نراها هشة، كما يهلك الأشرار ويختبئ الأخيار، ومنهم عرفات فى كهف بالجبل وينقذ العايقة، ويأخذها للكهف، بما يجسد معانى عليا، مثل التسامح والخير والعودة إلى الطريق السليم، وأن البقاء للأصلح والأطيب ولعرفات ذى القلب الشفاف ولصاحب الكرامات وللناس الطيبين، الذين لا يحرصون على امتلاك الأشياء بل يمنحون أشياءهم لمن يحتاجها فى سماحة وود، كما رأينا فى مشهد عرفات الذى كان واقفًا فى الخلاء بمفرده، فلما مرت عليه سيدة طلبت منه أن يعطيها خفه؛ فخلعه عن طيب خاطر وأعطاه لها لترتديه، ليحمى قدميها من صعوبة الطريق الوعر.

ولديه إيمان فيه سماحة، فهو يؤمن بأن «الكل منه»، هكذا يقول عرفات فى حواره مع العايقة حين تسأله عن الله، وتنتهى العاصفة الكاسحة لتبدأ حياة جديدة بأمل جديد فى إنهاء الشر والبحث عن الرزق والعيش فى سلام، وهو مشهد قبل النهاية قام بإخراجه وتصويره ببراعة شديدة المخرج المبدع حسين المنباوى، ويحسب للمصور إسلام عبدالسميع حرفية فنية مرهفة تنشغل بأدق التفاصيل، ويسيطر على المشاهد بإضاءة خافتة تتناسب مع الرمزية فى الأحداث، والحوار الشفاف فى كثير من المشاهد، وهو يصل إلى جدارة تجعله فى صدارة مصورى الدراما فى بلدنا بهذا المسلسل.

والبراعة فى تقديرى هى الوصف الذى يناسب كل عناصر هذا المسلسل الذى جذبنى لمتابعته، كما جذب المشاهدين رغم رمزيته الشديدة، التى تحتاج إلى يقظة كاملة من المُشاهد؛ لفك رموزه ومتابعة الحلقات وفهمها، وهو يقف فى صدارة أفضل ما قدّم هذا الشهر من دراما، والبراعة نجدها فى عناصره جميعًا من تأليف وسيناريو لعبدالفتاح كمال، إلى إخراج لحسين المنباوى والتصوير لإسلام عبدالسميع والأزياء لسامية عبدالعزيز والموسيقى التصويرية لشادى مؤنس وأداء بارع للممثلين، وتقف فى الصدارة براعة فائقة لطارق لطفى بتصوير قدرات الشيطان بالعيون الزائغة والابتسامة اللئيمة والشر فى التفرقة بين أهل القرية واستخدام شره من أجل السيطرة وتخطيط شيطانى لا يتوقف حتى آخر طعنة سكين تم غرسها فى جسده وينتهى مقتولًا باتحاد أهل القرية عليه، وهو قد غيَّر من ملامحه؛ لتناسب الدور، ومن ملابسه لتعكس الغريب القادم من مكان آخر للسيطرة والاستيلاء على الجزيرة.

وفى المقابل نجد براعة أداء تمثيلى للفنان أحمد أمين فى دور «عرفات»، الذى يجسد الخير والبراءة والكرامات والدين فى أبسط صورة بدون تشدد، ثم يأتى رياض الخولى فى براعة أداء ونضج فنى يختلف عن أى مسلسل آخر قدمه، وأيضًا بالنسبة للأداء المتقن فتتوقف عند الفنانة مى عز الدين «العايقة» التى تخلت عن أدوارها الاستعراضية السابقة والانفعالات المبالغ فيها، فهى أبسط أداءً وأكثر إتقانًا لمتطلبات الدور فى دور العايقة، ولعل هذا بسبب الرغبة فى الإتقان لدى المخرج وتغيَّرت فى أسلوبها السابق، حيث كانت تظهر بالماكياج الصارخ، أما فى الجزيرة فهى تبدو أكثر بساطة بتسريحة تناسب الدور ولون الشعر الأسود، بما يلائم المكان، وبما يبشر بممثلة لأدوار صعبة فى الآتى.

وأيضًا فى المسلسل تمثيل متقن لمحمود البزاوى ولفتحى عبدالوهاب ومحمد جمعة وميار الغيطى وبراعة تعكس حضورها رغم الظهور القليل، لكنه يترك بصمتها، وأقصد بذلك الفنانة وفاء عامر، وحضور متميز رغم قصر الدور للفنان عبدالعزيز مخيون الذى يجيد فى التلون بحسب الدور المطلوب، وبدقة متناهية فى الأداء، يبقى أن أغنية التتر التى لا يصلح لغنائها سوى على الحجار، ونهاية مريحة للمشاهد تحسب للكاتب، وإن كان «جزيرة غمام» فيه بعض اللقطات التى تتطلب تركيزًا شديدًا من المشاهد لفهم الرموز والحوار والتهويمات والرسائل من وراء الأحداث، وهى رسائل كثيرة ومختلفة وهى تصلح لكل زمان ومكان، لكن بشرط أن يكون لديك كمشاهد قدرة على فهمها.