رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

كيف يواجه الاقتصاد الروسى عقوبات الغرب؟

على الرغم من التوقعات بانهيار الاقتصاد الروسي، الخاضع لعقوبات شديدة، وبعد مرور أكثر من شهرين على غزو الرئيس فلاديمير بوتين لأوكرانيا، ارتفعت بالفعل صادرات بلاده النفطية إلى أوروبا ودول مثل الهند وتركيا، ويتجنب قطاعها المالي حتى الآن أزمة سيولة خطيرة، لأن هذه العقوبات قد تنجح على المدى الطويل، لكن في الوقت الحالي لا تزال العديد من الدول نفسها، التي تفرض عقوبات على روسيا، تلغي تأثير عقوباتها بشكل واضح، من خلال شراء الطاقة منها، وفي بعض الحالات بكميات أكبر، كما حدث خلال شهر أبريل مقارنة بشهر مارس الماضي.
(يواصل بوتين كسب ما لا يقل عن مليار دولار يومياً من بيع النفط والغاز، وحصة الأسد من أوروبا.. ترسل دول أوروبية منفردة مساعدات عسكرية إلى أوكرانيا، لكنها تتضاءل أمام المدفوعات التي تقدمها لروسيا مقابل النفط والغاز)، هكذا يقول إدوارد فيشمان، المتخصص السابق في خارجية الاتحاد الأوروبي في وزارة الخارجية.. وعلى الرغم من القيود الغربية المفروضة على القطاع المالي الروسي، فإن صادرات موسكو من النفط وصلت إلى 3.6 مليون برميل يومياً في أبريل، مقارنة بـ 3.3 مليون برميل يومياً في الشهر السابق، وقد دفعت هذه الإيرادات فائض الحساب الجاري الروسي إلى مستويات قياسية جديدة.. وخلال الأشهر الثلاثة الأولى من العام، بلغت 60 مليار دولار، مقابل 120 مليار دولار للعام بأكمله في عام 2021، مما زود الكرملين بإيرادات جديدة لمواجهة العقوبات، على الرغم من أن روسيا أقل قدرة بكثير على شراء الإمدادات وقطع الغيار من الخارج بسبب حظر العقوبات.
بالنسبة للعديد من الدول الأوروبية، فإن قطع الغاز الطبيعي أصعب من النفط، لأنه يميل إلى التداول بعقود طويلة الأجل من خلال خطوط أنابيب ثابتة، وهو ليس قابلًا للاستبدال مثل النفط.. على الرغم من أن ألمانيا أعلنت بعد فترة وجيزة من الغزو، عن وقف خط أنابيب نورد ستريم 2 الجديد من روسيا، إلا أن معظم الغاز الروسي لا يزال يتدفق إلى أوروبا كما كان من قبل.. وفي الوقت الراهن، لا تزال الإمدادات البديلة من الغاز الطبيعي المسال، الذي يمكن نقله عن طريق البحر، محدودة، وخاصة في أوروبا الوسطى والشرقية.. وقد يستغرق التحول إلى منتجين رئيسيين بديلين مثل الولايات المتحدة (أكبر منتج للغاز الطبيعي في العالم) أو قطر أو كندا، سنوات.
وضعت اللجنة التنفيذية للاتحاد الأوروبي خطة لخفض واردات الغاز الروسي بمقدار الثلثين بنهاية عام 2022، من خلال استيراد المزيد من الغاز المسال والتحول إلى المزيد من غاز خطوط الأنابيب من النرويج وأذربيجان، بالإضافة إلى زيادة طاقة الرياح والطاقة الشمسية.. لكن هذه الخطة لا تزال غامضة، ويصفها العديد من الخبراء بأنها غير مجدية.. كما واجه مقاومة شديدة، خاصة في ألمانيا، التي تستهلك أكبر قدر من الغاز الروسي، وهو ما يعادل ثلث إجمالي الاستخدام السنوي في ألمانيا.. وفي مقابلة مع مجلة دير شبيجل، أشار المستشار الألماني، أولاف شولتس، إلى أن برلين لا تستطيع تحمل تكاليف قطع الإمدادات الروسية في أي وقت قريب، قائلاً إن فرض حظر على الغاز الروسي لن ينهي الحرب الأوكرانية، بل يمكن أن يؤدي إلى (أزمة اقتصادية دراماتيكية، وفقدان ملايين الوظائف والمصانع التي لن تفتح أبوابها مرة أخرى.. سيكون لهذا عواقب وخيمة على بلدنا، وعلى كل أوروبا، وسيؤثر أيضاً بشدة على تمويل إعادة إعمار أوكرانيا.. وعلى هذا النحو، تقع على عاتقي مسئولية القول: لا يمكننا السماح بحدوث ذلك).
حتى وزيرة الخزانة الأمريكية، جانيت يلين، أشارت إلى أن فرض حظر على النفط والغاز الروسي يمكن أن يضر بشدة بأوروبا، بينما (على عكس الحدس، يمكن أن يكون له في الواقع تأثير سلبي ضئيل للغاية على روسيا)، والتي ستكون قادرة على العثور على مشترين في أماكن أخرى مع رفع الأسعار.. وقالت يلين، (من الواضح أن أوروبا بحاجة إلى تقليل اعتمادها على روسيا فيما يتعلق بالطاقة، لكننا بحاجة إلى توخي الحذر عندما نفكر في فرض حظر أوروبي كامل على واردات النفط).
ويصر المسئولون الأمريكيون والأوروبيون على أن بوتين لا يستطيع، في الأمد البعيد، تجنب التداعيات الاقتصادية الكارثية للحرب في أوكرانيا، (الأزمة الاقتصادية التي تواجهها روسيا ستترك الكرملين مع موارد أقل لدعم الاقتصاد الروسي، ومواصلة غزوه في أوكرانيا، واستعراض القوة في المستقبل)، ومع ذلك، تروي أرقام الإيرادات الروسية قصة مختلفة تمامًا.. قصة تكشف عن مدى الانقسام وعدم اليقين في الاستجابة الدولية للعقوبات، ومدى جاذبية النفط الخام الروسي المُخفض، في وقت ترتفع فيه أسعار الطاقة والتضخم المتفشي في كل مكان تقريبًا.. وليس هناك مكان أكثر صدقًا من أسواق الطاقة.. ففي حين حظرت الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا وكندا الواردات الروسية بشكل مباشر، فإن معظم الدول الأوروبية، بقيادة ألمانيا، تواصل الشراء، إلى جانب الهند وتركيا، اللتين زاد طلبهما الشهر الماضي.
منذ بداية غزوه، أعلن بوتين لشعبه، أن العقوبات الغربية لن تؤثر فعلياً، إلا على الولايات المتحدة وأوروبا، بسبب صادرات روسيا الضخمة من الطاقة والسلع الزراعية، مما تسبب في التضخم والضائقة الاقتصادية في الغرب.. والواقع أن مثل هذه المخاوف قيدت الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى حد ما، وهيمنت على النقاش حتى الآن في البرلمانات الأوروبية.. وكما قالت ناتاشا كانيفا، المحللة في بنك جيه بي مورجان، فإن التخلص من النفط الروسي سيسبب كل جزء من الألم الاقتصادي الذي تخشاه ألمانيا ودول الاتحاد الأوروبي الأخرى، مما قد يؤدي إلى ارتفاع الأسعار إلى نحو 185 دولاراً للبرميل.. وقد يكون ذلك مدمراً لاقتصادات مثل ألمانيا التي تحصل على 25% من نفطها و40% من غازها من روسيا.. وليس من المستغرب أن تقود برلين الدفاع عن قضية الطاقة الروسية.
كما تمكن الكرملين من تحقيق مركز مصرفي قوي، وغير خاضع للعقوبات، في غازبروم بنك، الذراع المالية لشركة الطاقة الروسية العملاقة غازبروم.. وتضغط موسكو على الدول الأوروبية وغيرها لإيداع مدفوعاتهم بالدولار في غازبروم بنك وتلقي الروبل في المقابل لشراء احتياجاتهم من الطاقة الروسية.. وبفضل التفكير البارع من إلفيرا نابيولينا، رئيس البنك المركزي الروسي، الذي رفع أسعار الفائدة وفرض ضوابط على العملة، تمنع الروس من إخراج الأموال من البلاد، فإن سعر صرف الروبل يدور حول ما كان عليه في فبراير، أي قبل اندلاع الحرب.. وقال تقرير معهد التمويل الدولي، إن (فرض عقوبات على بعض البنوك الروسية فقط ـ كما هو الحال الآن ـ يسمح باستمرار صادرات الطاقة الروسية، والحفاظ على فائض الحساب الجاري، والتراكم السريع للأصول الأجنبية الروسية).. وبعبارة أخرى، فإن العقوبات الحالية تعيد هيكلة تراكم الأصول الأجنبية، وليس وقفها. لأن حظر الطاقة أو العقوبات على جميع البنوك هي من سيمكنها فعل ذلك.
بالنسبة لبوتين، فإن القضية المالية الأكثر إلحاحاً، هي أن روسيا قد تتخلف قريباً عن سداد ديونها الخارجية لأول مرة منذ الثورة البلشفية في عام 1918، فقد يتم منع روسيا من الاقتراض الدولي وقد تكون قادرة على تمويل نفسها بعائدات الطاقة لفترة طويلة.. وهنا يتساءل مايكل هيرش، كبير المراسلين في فورين بوليسي: هل سيكون بإمكان بوتين تكييف اقتصاده مع العزلة طويلة الأجل؟.. نعم، تستطيع موسكو أن تبقي بنوكها تعمل لفترة طويلة على إعانات الدعم المولدة للطاقة، إذا أصبحت معسرة من الناحية الفنية.. ولكن عقوبات الغرب على الواردات من السلع الاستهلاكية ومواد الإنتاج وقطع الغيار، والضغوط المتزايدة على الموارد المالية الروسية، من شأنه أن يلحق، في نهاية المطاف، أضراراً جسيمة بالاقتصاد. وإذا ارتفعت معدلات البطالة، فقد يضع ذلك بوتين أمام مشكلة لم يواجهها بعد: البقاء قيد منصبه.. احفظ مصر يا الله من كيد الكائدين.. آمين.