رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مقدمات كتب تاريخية.. كلمات قليلة وأفكار طازجة

مقدمة
مقدمة

يقولون إن مقدمة الكتاب المدخل الأول لقلب القارئ وعقله.. وأى كاتب، بالطبع، لا يولّى وجهه إلا شطر القارئ.. وقلبه وعقله.. غير أن «السرعة»، التى سرقت «حلاوة» كل شىء، سرقت معها حلاوة الكتب أيضًا، فصارت المقدمات لا تُقرأ.. هذا إن كانت الكتب تُقرأ بالأساس.

لكن «كبارنا» كانوا يهتمون على نحو خاص بالمقدمة، على الرغم من بساطتها وقلة كلماتها، وكانت تحمل معها معانى مهمة وأفكارًا طازجة.

هنا بعض من هذه المقدمات على مدار أيام عيد الفطر المبارك، أعاده الله علينا جميعًا بكل الخير.

 

على هامش السيرة.. طه حسين: لا خير فى حياة القدماء إذا لم تلهم المحدثين

هذه صحف لم تُكتب للعلماء ولا للمؤرخين؛ لأنى لم أرد بها إلى العلم، ولم أقصد بها إلى التاريخ. وإنما هى صورة عَرضت لى أثناء قراءتى للسيرة فأثبتها مسرعًا، ثم لم أرَ بنشرها بأسًا. ولعلِّى رأيت فى نشرها شيئًا من الخير؛ فهى تردُّ على الناس أطرافًا من الأدب القديم قد أفلتت منهم وامتنعت عليهم، فليس يقرؤها منهم إلا أولئك الذين أتيحت لهم ثقافة واسعة عميقة فى الأدب العربى القديم. وإنك لتلتمس الذين يقرأون ما كتب القدماء فى السيرة وحديث العرب قبل الإسلام فلا تكاد تظفر بهم.

إنما يقرأ الناس اليوم ما يكتب لهم المعاصرون فى الأدب الحديث بِلُغتهم أو بلغة أجنبية من هذه اللغات المنتشرة فى الشرق، يجدون فى قراءة هذا الأدب من اليسر والسهولة، ومن اللذة والمتاع ما يغريهم به ويرغبهم فيه، فأما الأدب القديم فقراءته عسيرة، وفهمه أعسر، وتذوقه أشد عسرًا. وأين هذا القارئ الذى يطمئن إلى قراءة الأسانيد المطولة، والأخبار التى يلتوى بها الاستطراد، وتجور بها لغتها القديمة الغريبة عن سبيل الفهم السهل والذوق الهين الذى لا يكلف مشقة ولا عناء!

ذلك إلى أن الأدب القديم لم ينشأ ليبقى كما هو ثابت مستقر، لا يتغير ولا يتبدل، ولا يلتمس الناس لذته إلا فى نصوصه يقرأونها ويعيدون قراءتها، ويستظهرونها ويمعنون فى استظهارها. إنما الأدب الخصب حقًّا، هو الذى يلذُّك حين تقرؤه؛ لأنه يقدم إليك ما يُرضى عقلك وشعورك، ولأنه يوحى إليك ما ليس فيه، ويلهمك ما لم تشتمل عليه النصوص، ويعيرك من خصبه خصبًا، ومن ثروته ثروة، ومن قوته قوة؛ ويُنطقك كما أنطق القدماء، ولا يستقر فى قلبك حتى يتصور فى صورة قلبك، أو يصور قلبك فى صورته؛ وإذا أنت تعيده على الناس فتلقيه إليهم فى شكل جديد يلائم حياتهم التى يحيونها، وعواطفهم التى تثور فى قلوبهم، وخواطرهم التى تضطرب فى عقولهم.

هذا هو الأدب الحى. هذا هو الأدب القادر على البقاء ومناهضة الأيام. فأما ذلك الأدب الذى ينتهى أثره عند قراءته، فقد تكون له قيمته، وقد يكون له غناؤه، ولكنه أدب موقوت يموت حين ينتهى العصر الذى نشأ فيه. ولو أنك نظرت فى آداب القدماء والمحدثين لرأيت منها طائفة لا يمكن أن توصف بأنها آداب عصر من العصور أو بيئة من البيئات، أو جيل من الأجيال، وإنما هى آداب العصور كلها، والبيئات كلها، والأجيال كلها؛ لا لأنها تُعجب الناس على اختلاف العصور والبيئات والأجيال فحسب، بل لأنها مع ذلك تلهم الناس وتوحى إليهم، وتجعل منهم الشعراء والكتاب والمتصرفين فى ألوان الفن على اختلافها.

وليس خلود الإلياذة يأتيها من أنها تُقرأ فتحدث اللذة وتثير الإعجاب فى كل وقت وفى كل قطر؛ بل هو يأتيها من هذا، ومن أنها قد ألهمت وما زالت تلهم الكتاب والشعراء، وتوحى إليهم أروع ما أنشأ الناس من آيات البيان. ولقد كان «إيسكولوس» أبوالتراجيديا اليونانية يقول إنه إنما يلتقط ما يسقط من مائدة «هوميروس». وما زال القصاص وشعراء التمثيل والغناء فى الغرب خليقين أن يقولوا الآن ما كان يقوله «إيسكولوس» منذ خمسة وعشرين قرنًا. ولم تكن قصص «إيسكولوس» وغيره من شعراء التمثيل اليونانى أقل خصبًا من الإلياذة؛ بل هى قد ألهمت من الكتاب والشعراء قديمًا وحديثًا، وما زالت قادرةً على أن تلهمهم إلى اليوم وإلى الغد.

وإنى لأذكر أنى قرأت منذ أعوام قصة تمثيلية هى الثامنة والثلاثون من نوعها، وقد سماها صاحبها «جيرودو» بهذا الرقم؛ فوضع لها هذا العنوان «أنفيتريون رقم ٣٨». كانت أسطورة تتصل بمولد هرقل، فصورها سوفوكل قصةً تمثيلية فى القرن الخامس قبل المسيح. وما زال الشعراء والكتاب من اليونان والرومان والأوروبيين المحدثين يتأثرون ويذهبون مذهبه أو غير مذهبه، فى تصوير هذا الموضوع، حتى انتهت القصص التى كتبت فيه شعرًا ونثرًا إلى هذا العدد الضخم.

ولم يُحجم فُحُول التمثيل عن طرق هذا الموضوع لأنهم سبقوا إليه، بل زادهم ذلك حرصًا عليه ورغبة فيه. وكان بين الذين طرقوه الشاعر اللاتينى «بلوت» والشاعر الفرنسى «موليير». ثم لم يشفق جيرودو من أن يطرق موضوعًا سبق إليه الفحول من شعراء التمثيل فى العصور القديمة والحديثة، فصور قصته هذه الثامنة والثلاثين وعرضها على النظارة فى باريس سنة ١٩٢٩ فكان فوزها عظيمًا، وإعجاب النظارة والقراء بها لا حد له.

وفى أدبنا العربى على قوته الخاصة، وما يكفل للناس من لذة ومتاع، قدرة على الوحى، وقدرة على الإلهام. فأحاديث العرب الجاهليين وأخبارهم لم تُكتب مرةً واحدة، ولم تُحفظ فى صورة بعينها، وإنما قصها الرواة فى ألوان من القصص، وكتبها المؤلفون فى صنوف من التأليف. وقُل مثل ذلك فى السيرة نفسها؛ فقد ألهمت الكتاب والشعراء فى أكثر العصور الإسلامية وفى أكثر البلاد الإسلامية أيضًا؛ فصوروها صورًا مختلفة تتفاوت حظوظها من القوة والضعف والجمال الفنى. وقُل مثل هذا فى الغزوات والفتوحات، وقُل مثل هذا فى الفتن والمحن التى أصابت العرب فى العصور المختلفة. ولم يقف إلهام هذا التراث الأدبى العظيم عند الكتاب والشعراء الذين ينمقون النثر ويقرضون الشعر، فى اللغة العربية الفصحى، بل جاوزهم إلى جماعة من القصاص الشعبيين الذين تحدثوا إلى الناس فى صور مختلفة وأشكال متباينة، بما كان لآبائهم من مجد مؤثل، وبما أصاب آباءهم من محن مظلمة وفتن مُدْلَهِمَّة، عرفوا كيف يثبتون لها ويصبرون عليها، ويخرجون منها كرامًا ظافرين. ولا خير فى حياة القدماء إذا لم تلهم المحدثين ولم تُوحِ إليهم رائع البيان شعرًا ونثرًا. وليس القدماء خالدين حقًّا إذا لم يكن التماسهم إلا عند أنفسهم، ولا تعرف أنباؤهم إلا فيما تركوا من الدواوين والأشعار. إنما يحيا القدماء حقًّا، ويخلدون إذا امتلأت بصورهم وأعمالهم قلوب الأجيال مهما يبعد بها الزمن، وكانوا حديثًا للناس إذا لقى بعضهم بعضًا، وكنوزًا يستثمرها الكتاب والشعراء لإحياء ما يعالجون من ألوان الشعر وفنون الكلام.

إلى هذا النحو من إحياء الأدب القديم، ومن إحياء ذكر العرب الأولين، قصدت حين أمليت فصول هذا الكتاب. ولست أريد أن أخدع القراء عن نفسى ولا عن هذا الكتاب؛ فإنى لم أفكر فيه تفكيرًا، ولا قدرته تقديرًا، ولا تعمدت تأليفه وتصنيفه كما يتعمد المؤلفون؛ إنما دفعت إلى ذلك دفعًا، وأكرهت عليه إكراهًا، ورأيتنى أقرأ السيرة فتمتلئ بها نفسى، ويفيض بها قلبى، وينطلق بها لسانى، وإذا أنا أملى هذه الفصول وفصولًا أخرى أرجو أن تنشر بعد حين.

فليس فى هذا الكتاب إذًا تكلُّف ولا تصنُّع، ولا محاولة للإجادة، ولا اجتناب للتقصير، وإنما هو صورة يسيرة طبيعية صادقة لبعض ما أجد من الشعور حين أقرأ هذه الكتب التى لا أعدل بها كتبًا أخرى مهما تكن، والتى لا أملُّ قراءتها والأنس إليها، والتى لا ينقضى حبى لها وإعجابى بها، وحرصى على أن يقرؤها الناس. ولكن الناس مع الأسف لا يقرأونها؛ لأنهم لا يريدون أو لأنهم لا يستطيعون. فإذا استطاع هذا الكتاب أن يحبب إلى الشباب قراءة كتب السيرة خاصة، وكتب الأدب العربى القديم عامة، والتماس المتاع الفنى فى صحفها الخصبة، فأنا سعيد حقًّا، موفق حقًّا لأحب الأشياء إلىّ، وأثرها عندى.

وإذا استطاع هذا الكتاب أن يُلقى فى نفوس الشباب حب الحياة العربية الأولى، ويلفتهم إلى أن فى سذاجتها ويسرها جمالًا ليس أقل روعة ولا نفاذًا إلى القلوب من هذا الجمال الذى يجدونه فى الحياة الحديثة المعقدة، فأنا سعيد موفق لبعض ما أريد.

وإذا استطاع هذا الكتاب أن يدفع الشباب إلى استغلال الحياة العربية الأولى، واتخاذها موضوعًا قيمًا خصبًا لا للإنتاج العلمى فى التاريخ والأدب الوصفى وحدهما، بل كذلك للإنتاج فى الأدب الإنشائى الخالص، فأنا سعيد موفق لبعض ما أريد.

ثم إذا استطاع هذا الكتاب أن يلقى فى نفوس الشباب أن القديم لا ينبغى أن يُهجر لأنه قديم، وأن الجديد لا ينبغى أن يُطلب لأنه جديد، وإنما يُهجر القديم إذا برئ من النفع وخلا من الفائدة، فإن كان نافعًا مفيدًا فليس الناس أقل حاجةً إليه منهم إلى الجديد، فأنا سعيد موفق لبعض ما أريد.

وأنا أعلم أن قومًا سيضيقون بهذا الكتاب؛ لأنهم محدَثون يُكْبِرون العقل، ولا يثقون إلا به، ولا يطمئنون إلا إليه. وهم لذلك يضيقون بكثير من الأخبار والأحاديث التى لا يسيغها العقل ولا يرضاها. وهم يشْكون ويلحون فى الشكوى حين يرون كلف الشعب بهذه الأخبار، وجدَّه فى طلبها، وحرصه على قراءتها والاستماع لها. وهم يجاهدون فى صرف الشعب عن هذه الأخبار والأحاديث، واستنقاذه من سلطانها الخطِر المفسد للعقول. هؤلاء سيضيقون بهذا الكتاب بعض الشىء؛ لأنهم سيقرأون فيه طائفة من هذه الأخبار والأحاديث التى نصبوا أنفسهم لحربها ومحوها من نفوس الناس. وأحب أن يعلم هؤلاء أن العقل ليس كل شىء، وأن للناس ملكات أخرى ليست أقل حاجة إلى الغذاء والرضا من العقل، وأن هذه الأخبار والأحاديث إذا لم يطمئن إليها العقل، ولم يرضها المنطق، ولم تستقم لها أساليب التفكير العلمى، فإن فى قلوب الناس وشعورهم وعواطفهم وخيالهم وميلهم إلى السذاجة، واستراحتهم إليها من جهد الحياة وعنائها، ما يحبب إليهم هذه الأخبار ويرغبهم فيها، ويدفعهم إلى أن يلتمسوا عندها الترفيه على النفس حين تشق عليهم الحياة. وفرقٌ عظيم بين من يتحدث بهذه الأخبار إلى العقل على أنها حقائق يقرها العلم وتستقيم لها مناهج البحث، ومن يقدمها إلى القلب والشعور على أنها مثيرة لعواطف الخير، صارفة عن بواعث الشر، معينة على إنفاق الوقت واحتمال أثقال الحياة وتكاليف العيش.

وأحب أن يعلم الناس أيضًا أنى وسَّعت على نفسى فى القصص، ومنحتها من الحرية فى رواية الأخبار واختراع الحديث ما لم أجد به بأسًا، إلا حين تتصل الأحاديث والأخبار بشخص النبى، أو بنحو من أنحاء الدين؛ فإنى لم أبح لنفسى فى ذلك حرية ولا سعة، وإنما التزمت ما التزمه المتقدمون من أصحاب السيرة والحديث، ورجال الرواية، وعلماء الدين.

ولن يتعب الذين يريدون أن يردوا فصول هذا الكتاب القديم فى جوهره وأصله، الجديد فى صورته وشكله، إلى مصادره القديمة التى أخذ منها. فهذه المصادر قليلة جدًّا؛ لا تكاد تتجاوز «سيرة ابن هشام»، و«طبقات ابن سعد»، و«تاريخ الطبرى». وليس فى هذا الكتاب فصل أو نبأ أو حديث إلا وهو يدور حول خبر من الأخبار ورد فى كتاب من هذه الكتب. فإذا اتصل الخبر بشخص النبى فإنى أرده إلى مصدره ليستطيع من شاء أن يرجع إليه، لا أحتمل فى ذلك تبعةً خاصة؛ لأنى لا أذهب فيه مذهبًا خاصًّا، إلا أن يكون تبسطًا فى الشرح والتفسير واستنباط العبرة والوصول بها إلى قلوب الناس.

فلييسر الله سبيل هذا الكتاب إلى النفوس، وليحسن الله موقعه فى القلوب.

طه حسين

ديسمبر سنة ١٩٣٣

 

 

الإسلام وأصول الحكم.. على عبدالرازق: لا أخشى أحدًا غير الله

بسم الله الرحمن الرحيم

أشهد أن لا إله إلا الله، ولا أعبد إلا إياه، ولا أخشى أحدًا سواه له القوة والعزة، وما سواه ضعیف ذلیل، وله الحمد فى الأولى والآخرة، وهو حسبى ونعم الوكيل.

وأشهد أن محمدًا رسول الله، أرسله شـاهـدًا ومبشرًا ونذيرًا وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، صلى الله وملائكته عليه وسلموا تسليمًا كثيرًا.

وليت القـضـاء بمحـاكـم مـصـر الشـرعيـة، منذ سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة وألف هـجـرية «١٩١٥م» فـحـفـزنى ذلك إلى البحث عن تاريخ القضاء الشرعى، والقضاء بجميع أنواعـه فـرع من فروع الحكومة، وتاريخه يتصل بتاريخها اتصالًا كبيرًا، وكذلك القضاء الشرعى ركن من أركان الحكومة الإسلامية، وشُعبة من شعبها، فلا بد حينئذ لمن يدرس تاريخ ذلك القـضـاء أن يبـدأ بدراسـة ركنه الأول، أعنى الحكومة فى الإسلام.

وأساس كل حكم فى الإسلام هو الخلافة والإمامة العظمى- على ما يقولون- فكان لا بد من بحثها.

شرعت فى بحث ذلك كله منذ بضع سنين، ولا أزال بعـد مراحل البحث الأولى، ولم أظفر بعد الجهد إلا بهذه الورقات، أقدمها على استحياء، إلى من يعنيهم ذلك الموضوع.

جعلتها تمهيدًا للبحث فى تاريخ القضاء، وضمنتها جملة ما اهتديت إليه فى شأن الخلافة ونظرية الحكم فى الإسلام، وما أدعى أننى قد أحطت فيها بجوانب ذلك البحث، ولا أننى استطعت أن أتحامى شيئًا من الإجـمـال فى كثير من المواضع. بل قـد أكـون اكـتـفـيـت أحـيـانًا بإشارات ربما خفيت على صنف من القارئين جهتها، وبتلويحات قد تفوتهم دلالتها، وبكنايات توشك أن تصير عليهم ألغازًا، وبمجاز ربما حسبوه حقيقة، وبحقيقة ربما حسبوها مجازًا.

وإنى لأرجو- إن أراد الله لى مواصلة ذلك البحث- أن أتدارك ما أعرف فى هذه الورقـات من نقص. وإلا فقد تركت بـهـا بين أيدى الباحثين أثرًا عسى أن يجدوا فيه شيئًا من جدة الرأى، فى صراحة لا تشوبها مماراة . وعسى أن يجدوا فيه أيضًا أساسًا صالحًا لمن يريد البناء، وأعلامًا واضحة ربما اهتدى بها السارى إلى مواطن الحق.

أما بعد فإن تلك الورقات هى ثمرة عمل بذلت له أقصى ما أملك من جهد، وأنفقت فيه سنين كثيرة العدد. كانت سنين متواصلة الشدائد، متعاقبة الشواغل، مشوبة بأنواع الهم، مترعة كأسها بالألم، أستطيع العمل فيها يومًا ثم تصرفنى الحوادث أيامًا، وأعود إليها شهرًا ثم أنقطع أعوامًا، فلا غرو أن جاء عملًا« دون ما أردت له من كمال، وما ينبغى له من إتقان، بيد أنه على كل حال هو أقصى ما وصل إليه بحثى، وغاية ما وسعت نفسى «لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرًا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغـفـر لنا وارحـمـنا أنت مـولانـا فـانصرنا على القـوم الكافرين».

على عبدالرازق

المنصورة فى يوم الأربعاء الموافق

رمضان سنة ١٣٤٣هـ - أول أبريل سنة ١٩٢٥

عمارة الفقراء.. حسن فتحى: «البناء التعاونى» ضرورى للريف

هذا الكتاب دعوة لموقف جديد لإصلاح الريف، إن مستوى المعيشة والحضارة بين فلاحى العالم الفقراء فقرًا مدقعًا هو مما يمكن رفعه بواسطة البناء التعاونى، الذى يتطلب تناولًا جديدًا للإسكان الجماهيرى فى الريف، وهذا التناول فيه ما هو أكثر من خالص الأمور التقنية، التى تهم المهندس المعمارى، فهناك مسائل اجتماعية وحضارية تتصف بتعقد ورهافة بالغين، وهناك المسائل الاقتصادية، ومسألة علاقة المشروع بالحكومة، وهلم جرا. ولا يمكن أن تترك أيًا من هذه المسائل بدون اعتبار، لأن كل واحدة منها لها تأثيرها على الأخرى، والصورة الشاملة ستتشوه بحذف أى منها.

ولهذا فإن الكتاب يعالج المركب الكلى لهذه المشكلات، وكل أمر يقع فى مكانه المنطقى فى العرض «إلا بالنسبة لبعض المعلومات التقنية المحضة، التى تم وضعها فى ملحق» بحيث يتمكن كل القراء، مهما كانت مؤهلاتهم أو أوجه اهتماماتهم الخاصة، من استيعاب شمولية فلسفة التخطيط المعروضة.

ولما كانت مقترحاتى تتعلق أساسًا بالفلاح، فإن كتابى مهدى إليه، وكم كنت أود لو كان من المستطاع أن يكون توجيهه مقصورًا عليه، وإنى لآمل أنه سيأتى سريعًا ذلك الوقت الذى يستطيع فيه أن يقرأه ويحكم عليه، على أن ينبغى علىّ فى الوقت الحالى أن أوجهه إلى أولئك الذين يضعون رفاهية الفلاح موضع العناية: إلى المهندس المعمارى، وإلى المخطط، وعالم الاجتماع، وعالم الإنسان، إلى كل الرسميين المحليين والقوميين والدوليين الذين يهتمون بالإسكان وبرفاهية الريف، إلى السياسيين والحكومات فى كل مكان، وإلى كل فرد يعمل فى المساعدة على تشكيل السياسة الرسمية الموجهة للريف.

ولن يكون من الإنصاف ختام هذه المقدمة بدون الإقرار بالشكر لكل أولئك الذين ساعدونى فى إنتاج هذا الكتاب، وهم من مصر، الدكتور ثروت عكاشة، والدكتور مجدى وهبة، ومستر كريستوفر سكوت، والآنسة نوال حسن، ومستر سبيرو ديامانتيس، والدكتور رولاند إليس، أما فى الولايات المتحدة فقد نلت العون من زمالتى فى معهد أدلاى ستيفنسون، كما اكتسبت واستمتعت إلى حد هائل من رفقتى لهيئة التدريس بالمعهد ولأصحاب الزمالة الآخرين، إن هذا المعهد هو المكان الذى فيه أفكارى وجدت سكناها وروحها فى صورة جدًا واضحة بما أثق أنه سيمكننى من أن أضعها موضع التطبيق.

حسن فتحی

زيارة للجنة والنار.. مصطفى محمود: افتحوا العقول.. وأعطوا الخيال حرية

الجنة والنار من حيث حقيقتهما وحقيقة ما يجرى فيهما وكيفيات النعيم وكيفيات العذاب هما غيب لا نعلم به ولا يعلم به إلا الله... وقصارى ما نعلمه بيقين أن الجنة هى دار النعيم، وأن النار هى دار العذاب، وأن النعيم حق والعذاب حق ولكن الكيفيات والتفاصيل غيب.. وما جاء عن الجنة فى القرآن أنها أنهار من لبن وأنهار من عسل هى ضرب مثال مما نعلم فى حياتنا.. يقول ربنا.. مثل الجنة التى وعد المتقون.. فالله يضرب مثالًا.. وكذلك السلسلة السبعون ذراعًا التى يوثق بها المجرمون وسرابيل القطران.. هى تصوير إلهى فى حدود ما نفهم، وباللغة التى نفهمها، والمفردات التى نألفها.. ونار الآخرة نفس الشىء... ففيها تنبت شجرة الزقوم.. يقول عنها ربنا إنها شجرة تنبت فى أصل الجحيم، والكفار يتلاعنون ويختصمون فى النار.. يقول ربنا.. إنه لحق تخاصم أهل النار.. ولا نعلم فى مفهومنا شجرة تنبت فى النار ولا نتصور بشرًا يتكلمون وهم جلوس فى النار، فنار الله غيب وجنته غيب.. وهذا يفتح للعقل مجالًا للتصور ويعطى للخيال طلاقة وحرية.. وهو ما فعله الشاعر دانتى فى ملحمته الشعرية الكوميديا الإلهية.. وما فعله شاعرنا أبوالعلاء المعرى فى رسالة الغفران.. وهو ما تخيلته فى هذه المسرحية.. وفى هذه الزيارة التى سرت فيها بخطى الخيال إلى مراقى الجنة ودركات الجحيم.

والبطل فى الرواية لا يرمز لأحد ممن نعلم وهو ليس شخصًا بعينه رغم ما يقع فى أفعاله من أمور جرت بها الأخبار.. إلا أنه ليس هذا ولا ذاك من ملوكنا.. بل هو رمز للجبروت وللجبارين فى كل زمان ومكان ولمصير الجبارين ونهايتهم.

وأنا لا أملك أن أدخل أحدًا النار ولا أملك أن أدخل نفسى الجنة ولا أملك وسيلة لهذه الرحلة إلى العالم الغيبى.. ولم ينكشف لى شىء من أمور هذه العوالم العلوية والسفلية.. ولكنه الخيال الطليق واليقين الثابت بأن الجبارين على جميع ألوانهم وأسمائهم وعصورهم سيكون هذا مصيرهم وأكثر.. والله يخفى لهم من العذاب أكثر مما نقول، كما يخفى للصالحين الأبرار الشهداء من النعيم أكثر مما يحلمون به وأكثر مما نتصور..

إنها مركبة الخيال.. فى رحلتها لعالم النهاية والعاقبة والعبرة والفن فى محاولته للتحليق إلى آفاق المحال.

ودليلى فى تلك الرحلة كان يقينًا ثابتًا بأن الله لا تضيع عنده المروءات ولا تبخس عنده الموازين.. وأن للذين أحسنوا عنده الحسنى وزيادة وللذين أساءوا السوء.. وتعالى ربنا على كل ما نقول ونكتب.. فنحن فى النهاية أسرى الكلمة لا نستطيع أن نتجرد منها وسجناء الحرف لا نستطيع أن نتجاوزه.. والحقيقة فوق الكلمة وفوق الحرف ومن وراء الكلمة والحرف.. والله من وراء الجميع.. إنما هو قول فيما لا يقال ومحاولة أخرى من ضرب المثال.

مصطفى محمود