رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

نجوم فى سماء رمضان «1»

الاختيار يضع بصمته فى ذاكرة المصريين الفنية

أجزاء «الاختيار» أرخت للصراع مع الإرهاب بطريقة العد التنازلى من ٢٠١٧ إلى ٢٠١٢ 

صنّاع المسلسل كسبوا الرهان على عقول الأجيال الشابة وخلقوا حالة تعاطف وجدانى مع الأبطال الذين تصدوا لإرهاب الإخوان

أمير كرارة فى دور المنسى وإياد نصار فى دور محمد مبروك وياسر جلال فى دور الفريق السيسى أكثر من أثروا عاطفيًا فى مشاعر المصريين

أهمية المسلسل تاريخية وتوثيقية وسياسية فى المقام الأول والفن يأتى بعد ذلك

رغم أى شىء يظل لرمضان فى مصر معنى خاص.. له علاقة بتاريخ المصريين القديم.. الذين بقدر ما تمسكوا بالدين بقدر ما برعوا فى الفن.. حقيقة سجلتها الرسوم على جدران المعابد.. وأعاد إحياءها الفاطميون.. أحفاد النبى الذين أقاموا خلافة مستقلة بهم فى مصر.. قبل عصر التليفزيون والإذاعة كان المصريون يحيون ليالى رمضان بالاستماع إلى القرآن منغمًا مرتلًا على يد مشايخ القراءة الكبار من الجيل الذى سبق صوت السماء محمد رفعت ولم تلحق بهم التكنولوجيا لتحفظ أصواتهم على أسطوانات، كما فعلت مع الشيخ رفعت ثم مع مصطفى إسماعيل وغيرهما من أركان دولة التلاوة.. ومع ازدهار الإذاعة وإدراك ثورة يوليو دور الإعلام صار رمضان بهجة حقيقية فى الإذاعة وكان مسلسل الشرق الأوسط ساعة الإفطار مصدر بهجة حقيقية تجعلنا ننتصر على رتابة العادة وننتظر لحظة انطلاق المدفع لتصافح آذاننا نحن مواليد منتصف السبعينيات أصوات فاتن حمامة فى «البرارى والحامول» و«ليلة القبض على فاطمة» وأحمد زكى ويسرا فى «دموع صاحبة الجلالة» وميرفت أمين ومحمود عبدالعزيز فى «الدنيا على جناح يمامة».. أما ما بعد الإفطار.. مع الشاى وقطعة الكنافة المنزلية.. المحشوة بالسودانى والزبيب والحب كنا نجلس لندخل عالم البهجة مع نيللى فى فوازير «الخاطبة» ثم مع سمير غانم ملك البهجة واللطف.. ثم مع شريهان التى أحبها كثير من المصريين.. حدثت تغيرات كثيرة فى المجتمع وظهرت القنوات الخاصة.. وأصبحت البرامج الخفيفة جزءًا من مكونات رمضان.. ثم تقدمت برامج الحوار.. وتحول بعضها إلى برامج فضائح.. وتنمر.. وتشهير.. ومع يناير ٢٠١١ انفتحت السوق دون ضابط أو رابط فشهدنا فى عام ٢٠١٤ إنتاج خمسة وخمسين مسلسلًا دراميًا.. بعضها يهدف منتجوها إلى الربح.. وبعضها إلى تلميع شخصيات بعينها أو تبرئة متهمين فى قضايا الرأى العام.. وبعضها غسيل أموال صريح.. وبعضها مغامرات إنتاجية نجح بعضها وفشل بعضها.. وكانت النتيجة صداعًا دراميًا.. وتشوشًا شعوريًا.. وفوضى فى أجور النجوم.. وكان السبب أن الهدف من إنتاج المسلسلات لم يكن اقتصاديًا من الأساس.. ولا شك أنه حدث نوع من التنظيم للأعمال الدرامية خلال الثلاث سنوات الماضية.. وتمت العودة لإنتاج مسلسلات تنمى القيم المشتركة بين المصريين وتمارس التأريخ للأحداث المهمة عبر الدراما كبديل للكتاب التاريخى.. بهدف الوصول لجماهير أعرض وللأجيال الأصغر من المصريين.. الذين كان البعض يراهن على سرقة وعيهم أو إقناعهم بالرواية الإخوانية للتاريخ عبر مئات الصفحات الممولة على «فيسبوك».. أو عبر القنوات والمواقع الإخوانية.. وكان رأس الحربة فى هذه الخطة هو مسلسل «الاختيار».. الذى بدأ عام ٢٠١٩ بتسجيل بطولات الجيش المصرى بالتصدى للإرهاب فى سيناء.. وجسد قصة استشهاد بطل الصاعقة المصرى المقدم أحمد المنسى ورجاله فى موقعة كمين البرث عام ٢٠١٧.. وجسد أيضًا قصة خيانة وفرار هشام عشماوى وعماد عبدالحميد، والمصير الذى انتهيا إليه بالموت والإعدام.. والحقيقة أن المسلسل مثّل صدمة للإخوان وأتباعهم.. فانطلقوا لتشويه المنسى والشخصيات السيناوية التى كانت تقاتل معه.. ولكن النجاح الساحق للمسلسل والتعاطف الكبير مع أحمد المنسى أخرسهم.. وكان من الظريف أنهم بعد مشاهدة الجزء الثالث من «الاختيار» الذى جسد أحداث سقوط الإخوان.. خرج أحد أبواق الإخوان ليقول «ليت الجزء الثالث كان مثل الجزء الأول الذى جسد بطولة أحمد المنسى التى يجمع عليها المصريون جميعًا»!! وكان المعنى أن الصفعة التى تلقاها الإخوان مع الجزء الثالث.. آلمتهم لدرجة جعلتهم يترحمون على الجزء الأول.. وكان أعظم ما حققه الجزء الأول هو توعية الأجيال الجديدة بقيم الوطنية المصرية.. وقد شاهدت طفلة قريبة لى تبكى فى مشهد استشهاد أحمد المنسى فأدركت أن رسالة المسلسل وصلت للمستهدفين بها.. ولا يعنى هذا أنه لم تكن لى ملاحظات فنية على السيناريو والحوار والمسار الدرامى.. لكن الاختيار ليس مسلسلًا مكسيكيًا يهدف للإثارة بقدر ما هو مسلسل توثيقى تاريخى ذو هدف وطنى وقد حقق أهدافه كاملة.. بلا نقصان.

ولا شك أن نجاح الجزء الأول قد أغرى الشركة المتحدة بمزيد من الاستثمار فى الجزء الثانى.. فعاد المسلسل بالأحداث إلى العام الذى تلا إسقاط الإخوان.. ولجوئهم لسيناريو العنف.. ورأينا بطولة مشتركة بين مجموعة من كبار نجوم الشباك فى الفن المصرى كان أهمهم كريم عبدالعزيز وأحمد مكى.. مع أداء مميز لإياد نصار فى دور ضابط الشرطة الشهيد محمد مبروك.. وشاهدنا قصة خيانة أحد زملاء محمد مبروك له ووشايته به.. مع قصص أخرى عن مجموعات الإرهاب التى ظهرت فى مصر عقب إسقاط الإخوان.. وقدم أحمد مكى أداء مختلفًا لشخصية ضابط الشرطة مع قصة حب مؤثرة تضمنتها الأحداث مع الممثلة ذات الملامح المصرية أسماء أبواليزيد.. وقد انتقل المسلسل مع الجزء الثانى منه نقلة فنية وجماهيرية كبيرة وأصبح من مفردات رمضان الفنية فى ذاكرة المصريين. 

القرار 

واصل صنّاع الاختيار هذا العام التأريخ لما حدث فى مصر منذ صعود الإخوان حتى الآن مع ملاحظة أن المسلسل أرّخ للأحداث بشكل عكسى.. فالجزء الأول منه دارت أحداثه فى عامى «٢٠١٦/٢٠١٧» والجزء الثانى منه دارت أحداثه فى «٢٠١٣/٢٠١٤» والجزء الثالث منه دارت أحداثه فى «٢٠١٢/٢٠١٣»، وبالمعنى التاريخى هو أهم جزء لأنه يسجل الحدث الذى تأسس عليه الصراع الذى سجل أحداثه الجزآن الأول والثانى.. وقد تميز هذا الجزء بعرض تسجيلات واقعية لعدد من قادة الإخوان أهمهم خيرت الشاطر ومحمد بديع ومحمد مرسى وعبدالمنعم أبوالفتوح.. وهى تسجيلات كانت تتم بإذن من القضاء العسكرى لتكون أقرب لمحضر اجتماع رسمى يسجل ما يقوله الإخوان وغيرهم فى لقاءات كان هدفها استطلاع المواقف المختلفة فى المرحلة الانتقالية التى تولى فيها الجيش حكم البلاد.. ولا شك أن الأجزاء المنتقاة منها هى أجزاء كاشفة.. توضح أن الإخوان ليسوا بهذه المثالية التى قدموا بها أنفسهم لأتباعهم أو للرأى العام فى مصر والخارج.. فخيرت الشاطر فى بعضها يعلن عن نيته الإبلاغ عن العناصر المنتمية للقاعدة إذا كان سيحصل على مقابل سياسى لذلك.. ويرسم فى أحدها سيناريو الابتزاز الذى مارسه للمجلس العسكرى بالتلويح بورقة دعم حازم صلاح أبوإسماعيل إذا لم يتم السماح بمرشح إخوانى.. ومحمد بديع يتبرأ من عبدالمنعم أبوالفتوح.. ومحمد مرسى يلعن أيمن نور وآخرين ويعلن عن عدم مسئوليته عن تصرفاتهم.. وهى لقطات تنير لمن يريد أن يفهم ماذا حدث.. وكيف وصل الإخوان.. ولماذا وصلوا إلى المصير الذى وصلوا إليه.. فالإخوان «تمسكنوا حتى تمكنوا» وقدموا أنفسهم للمجلس العسكرى وللقوى السياسية.. على أنهم جماعة متعاونة.. عاقلة.. براجماتية.. وكان قادتهم يطأطئون رءوسهم وهم يستمعون لتعليمات مدير المخابرات الحربية حول شطط القنوات الإسلامية.. أو حول طريقة الحكم «اللى يحكم ما يخافش».. لكنهم ما إن تولوا الحكم.. حتى بدأوا فى نسج القصص التى تُظهر محمد مرسى فى صورة أبى زيد الهلالى سلامة.. وحتى تعيين وزير الدفاع الفريق السيسى الذى كان تعبيرًا عن تسليم وتسلم بين الأجيال فى القوات المسلحة المصرية نسجوا حوله أكبر كم من الشائعات المضحكة.. التى أظهرت محمد مرسى فى صورة أسد غضنفر.. أطاح بأقدم وزير دفاع فى تاريخ مصر وأتى بغيره فى غمضة عين.. رغم أن الحقيقة أنه كان لا يستطيع تغيير جندى الحراسة الواقف على باب مكتبه.. وقد استمعت لهذه القصة المضحكة فى أغسطس ٢٠١٢ من قيادى من قيادات الصف الثانى فى الإخوان.. ظهر فى حياتى فجأة مدعيًا أنه كان يعرفنى من أيام الجامعة وأنه يقدر كتاباتى ضد الإخوان بحجة أن الخلاف فى الرأى لا يُفسد للود قضية.. المهم أننى أدركت من القصة التى رواها لى كم بؤس الإخوان.. والمعنى الذى تريد الجماعة إيصاله لأعضائها.. وأدركت أنهم يسيرون نحو النهاية بأسرع مما يتخيل البعض.. لقد جسد الجزء الثالث أهم وقائع الصراع على مصر ومصيرها.. وإذا كانت المشاهد الواقعية هى البطل الأول فى العمل فقد نافستها بضراوة المشاهد التى أداها النجم ياسر جلال مجسدًا فيها شخصية الرئيس السيسى التى اجتاز فيها تحدى تجسيد شخصية حية وشهيرة يتابعها الناس يوميًا، وهو تحدٍ كبير نجح فيه ياسر جلال لأنه قرأ الشخصية من الداخل.. وعبّر عن روح الرئيس السيسى بأكثر مما عبّر عن صفاته الخارجية وإن كان التقط «لازمة» كلامية للرئيس تتمثل فى عبارة «الأمر ده» وتكرر عبارة «آه صحيح» والتأكيد على المعنى بالتساؤل «آه.. أومال إيه»؟ وبشكل عام فإن تأدية شخصية سياسية شهيرة أمر يُحسب للفنان إذا نجح فيه.. والناس حتى الآن تذكر أحمد زكى فى دور السادات أكثر من غيره.. رغم أنه تفوق فنيًا فى أدوار أخرى مثل «زوجة رجل مهم» مثلًا.. والأكيد أن ياسر جلال نجح فى تقمص الشخصية، داخليًا وخارجيًا، وهو ما يستحق أن نتحدث عنه بالتفصيل.. احتل الاختيار المرتبة الأولى فى سباق المشاهدة على منصة واتش إت وعلى الشاشات أيضًا وهى مرتبة مستحقة للأسباب التى ذكرتها فى هذا المقال وهى فى معظمها أسباب سياسية تاريخية توثيقية.. أما فنيًا فنتحدث عنه فى مقال مقبل بإذن الله.