رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مزيد من الاحتقان والشروخ داخل البيت الشيعى العراقى

ألقى إمام شاب يدعى «على المسعودى»؛ خطبة صلاة الجمعة، الأسبوع الماضى، فى محافظة بابل العراقية، فجر خلالها قضية بناء المزارات والقبور باعتبارها لا أساس لها فى الإسلام، وأنها تمثل بدعة ومخالفة لصحيح الدين.

كما أعاد التذكرة بأن المروى من الأحاديث على لسان الإمام على، كرّم الله وجهه، نهى فى أغلبها عن بناء الأضرحة أو القبور المرتفعة، الخطيب يمثل أحد أتباع تيار رجل الدين الشيعى «محمود الصرخى» المثير للجدل داخل المكون الشيعى، حيث لم تكن هذه الدعوة التى أثارت حفيظة الكثيرين هى المرة الأولى التى يطلق فيها التيار مثل تلك القضايا الخلافية.

اشتعلت الأمور سريعًا على خلفية تفاعل واسع مع خطبة رجل الدين على المسعودى، حيث اعتبرها الكثيرون دعوة لهدم العتبات المقدسة التى يجلها جمهور المنتمين للمذهب الشيعى. وسرعان ما انطلقت الدعوات على وسائل التواصل الاجتماعى تحرّض على القيام بعمليات اعتداء استباقية على المساجد والمكاتب التابعة لـ«التيار الصرخى»، ونفذ البعض منها مجموعات مسلحة، حسب ما نُشر كمقاطع مصورة، من أجل الترويج المقصود لحجم الاستجابة الواسعة من أعضاء التيارات المناهضة لمثل هذه الدعوة.

وشهدت محافظات الجنوب العراقى عمليات هدم وإحراق، المؤكد منها على الأقل كان فى محافظتى الديوانية وبابل، كما نقل البعض منها وسائل إعلام محلية، دون تعليق من الأجهزة الرسمية سوى بيان مقتضب من «خلية الإعلام الأمنى» التابعة لوزارة الداخلية العراقية، أعلنت فيه عن توقيف وإلقاء القبض على ٢٨ شخصًا، ممن أسمتهم مثيرى الفتنة والمسيئين للرموز الدينية، من مناطق متفرقة شملت ست محافظات فى الوسط والجنوب العراقى.

إحصاءات غير رسمية تشير إلى تعرض أكثر من ٤٠ «حسينية»، خاصة بأتباع هذا التيار للحرق والتدمير، وهو رقم كبير ينقل المشهد من مجرد رد الفعل الفردى المحدود، إلى حالة من الاستجابة الواسعة والتعبير عن احتقان مكتوم، ربما وجد هذه القضية فرصة للتنفيس عن حالة من الغضب الواسع الباحث عن هدف، سرعان ما التقطه، بمجرد طرح قضية جدلية مثل تناول التعظيم المبالغ فيه للمراقد والعتبات المقدسة. لكن هناك بالداخل العراقى من يتبنى رؤية أخرى لهذه الأحداث، ليست بعيدة من وجهة نظر هؤلاء عن الاحتقان السياسى العام والإشكاليات العميقة التى باتت تسكن البيت الشيعى العراقى. فنظرة مدققة قليلًا حول أطروحات رجل الدين «محمود الصرخى»، تقودنا سريعًا إلى نوع من التمرد على الهيمنة التقليدية للمرجعيات الشيعية العراقية، ومن ثم التغلغل الإيرانى الذى فرض الكثير من الأطر الحاكمة لمسيرة المكون العراقى الكبير من أتباع المذهب الشيعى. فليس خافيًا فى تاريخ الصرخى أنه يقدم نفسه باعتباره «مرجعًا عربيًا» ينتمى إلى طائفة الشيعة «الاثنا عشرية»، ولديه عشرات الآلاف من الأتباع فى غالبية المدن العراقية. هؤلاء لهم سمة تبدو مختلفة إلى حد كبير عن تيارهم الشيعى، يبدأ بالشكل حيث لا يرتدون عادة الزى التقليدى لرجال الدين الشيعة، بل يحرصون على ارتداء الملابس الحديثة والسترات وأربطة العنق، كما ظهر الشيخ «على المسعودى» أثناء إلقائه خطبة الجمعة التى أثارت هذه الأحداث مؤخرًا، بل ذهبوا إلى حد تأليف أناشيد دينية يحرص عليها أتباع المذهب الشيعى، لكنهم وضعوا لها بصمتهم الخاصة بطريقة «الراب» الشبابية المتمردة كما توصف عادة هذه الأنماط الموسيقية. وتماهيًا مع هذا الملمح المختلف يبدو رجال الدين فى هذا التيار «صغيرى السن» لحد لافت، حيث يقع أغلبهم فى مرحلة عمرية تتراوح بين العشرينيات والثلاثينيات. 

لكن الجدل والاختلاف لا يقفان عند حد الشكل والسمات العامة لأتباع هذا التيار، فتاريخ ومسيرة «محمود الصرخى» نفسه يحملان الكثير فى طياتهما، مما قد يكشف عن هذا القدر المتأصل من الاختلاف الذى يحرص عليه ويؤمن به. الصرخى ولد فى مدينة الكاظمية ببغداد عام ١٩٦٤، وحصل على شهادة البكالوريوس فى الهندسة المدنية من جامعة بغداد عام ١٩٨٧. بعد انتهائه من دراسته الجامعية التحق بالدراسة الدينية داخل الحلقات العلمية فى مدينة النجف، ليصبح أحد طلاب المرجع الشيعى البارز «محمد صادق الصدر»، والد زعيم التيار الصدرى الحالى «مقتدى الصدر»، الذى اُغتيل فى عهد الرئيس الراحل صدام حسين. لهذا كان منطقيًا بعد إسقاط النظام العراقى عام ٢٠٠٣، انضمام الصرخى وأتباعه إلى «جيش المهدى» الذى أسسه مقتدى الصدر لمحاربة قوات التحالف، لكنه لم يستمر داخله طويلًا وانفصل عنه لاحقًا. ليقوم بتأسيس فصيل مسلح تابع له سُمى «جيش الحسين»؛ نفذت عناصره عددًا من العمليات ضد القوات الأمريكية والبريطانية فى جنوب العراق، كما خطط أكثر من مرة لهجمات ضد «معتقل بوكا» الشهير، لكنها فشلت فى معظمها. لكن يظل اللافت فى هذه السنوات المبكرة من عمر التيار، أن أنصاره انفردوا بتنظيم مظاهرة حاشدة عدائية ضد إيران أمام قنصليتها فى مدينة «كربلاء»، ولاحقًا فى عام ٢٠٠٦ هاجم أتباعه مقر القنصلية الإيرانية فى البصرة أيضًا، حيث حمّل الصرخى حينها التدخل الإيرانى المسئولية عن الانقسامات التى شهدها العراق، واحتفظ بكثير من الآراء والمواقف المعلنة المنتقدة للأحزاب التى تولت السلطة فى العراق بعد الغزو الأمريكى ٢٠٠٣.

أتباع رجل الدين محمود الصرخى يضعونه بمرتبة «آية الله»، وهو أرفع الألقاب الشيعية التى لا تُمنح إلا لمن وصل لدرجة الاجتهاد العلمى. مناهضوه لا يعترفون بذلك كونه لم يحصل على هذا اللقب بالطرق التقليدية، حيث لم يمنحه أى مرجع شيعى سابق معتمد شهادة الاجتهاد، وتظل غالبية رجال الدين الشيعة فى العراق يجمعون على أنه لا يملك صفة المرجعية التى تبيح للناس تقليده. خاصة بعد الخلاف الكبير الذى نشب بينه وبين المرجع الدينى الأعلى لشيعة العراق «على السيستانى». فالصرخى لا يخفى مواقفه الرافضة لمعظم قرارات السيستانى، ويضعها وأتباعه فى حزمة مسببات ما أوصل العراق إلى ما هو عليه الآن، من تناحر واحتقان طائفى ما أصاب البيت الشيعى من انقسام وشروخ ظاهرة للعيان. لكن يظل فى مسيرة هذا التيار أبرز تلك الخلافات مع المرجعية العليا، هى رفضهم الفتوى التى صدرت وتضمنت إعلان الجهاد ضد تنظيم «داعش»، بعد أن احتل مساحات واسعة من شمال وشمال غربى العراق عام ٢٠١٤. حينها خرج الصرخى بدعوة إلى ضرورة الحوار مع تنظيم الدولة وليس «الجهاد» ضده، لأن ذلك سيشعل حربًا أهلية ويؤجج النعرات الطائفية فى العراق، خاصة أن إعلان الجهاد كان مصحوبًا بتشكيل ما سمى بعدها فصائل «الحشد الشعبى» المسلحة.

يشكل موقف رجل الدين «محمود الصرخى» المناهض لإيران ورجالها داخل العراق، المرجعية الأبرز فى تفسير طبيعة الخلاف بينه وبين السلطات العراقية. مثلما استثار «نورى المالكى»، رئيس الوزراء الأسبق، موقف الصرخى من إنشاء وتشكيل فصائل الحشد، فقام حينها بقصف مقره فى كربلاء وقتل إثر ذلك العشرات من أتباعه. لذلك اختفى عن الأنظار منذ ٢٠١٤ لكن تياره ظل حاضرًا ويتمدد، هذه الإشكالية الجديدة أتت معبرة عن حجم الشروخ التى أصابت البيت الشيعى، بالطبع لم يصنعها الصرخى وتياره وحدهم، بل ربما تمثل ناقوس خطر من الضرورى الانتباه إلى أن المكون بكامله، الذى يقف اليوم معطلًا الحياة السياسية برمتها، صار أمام خلاف شيعى- شيعى حاد للمرة الأولى، مما قد يستلزم من عقلاء التيار وهم كثر، الوقوف لقراءة ما جرى، فهو عرض لحالة وليس فعلًا مستقلًا بذاته.