رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الغاز الإسرائيلى وفرص التعويض لأوروبا

تتحرك تركيا منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، من أجل استعادة فرص مشاركتها كناقل رئيسى للغاز إلى دول أوروبا، باعتبار الأخيرة الأكثر تأثرًا بما يجرى على صعيد العقوبات الاقتصادية، وتقييد التعامل مع الجانب الروسى بالأخص فيما يتعلق بالاعتمادية على مصادرها السخية من الغاز، التى شهدت تناميًا كبيرًا فى السنوات الأخيرة التى سبقت أحداث الأزمة الراهنة. أنقرة ترى أن تعاونها مع إسرائيل فى إيصال الغاز الطبيعى إلى أوروبا، هو السيناريو الأكثر واقعية الذى يضع لها ما هو أكثر من موطئ قدم فى ساحة شرق المتوسط، الذى وفق تقديرها قد جرى إبعادها عنه بشكل متعمد، على الأقل من قبل حلفاء كانت تظنهم سيرحبون بهذه الخطط التركية التعاونية.

اليوم وبعد أن تغيرت المعطيات الخاصة بملف الطاقة الأوروبى برمته، أطلت تركيا برأسها وخططها مرة أخرى، هذه المرة مصحوبة بالطموح الإسرائيلى للعب دور رئيسى فى سد الفجوة، عبر تزويد الدول الأوروبية بالغاز من احتياطاتها البحرية. فبينما تسعى أوروبا إلى وقف اعتمادها على الوقود الأحفورى الروسى، على خلفية غزو موسكو لأوكرانيا، وهو قرار أوروبى استراتيجى أصبح لا يشوبه الآن سوى الانقسام بشأن الجدول الزمنى لتحقيقه، تظل المؤشرات ووفق مصادر من خبراء الاتحاد ترى أن التخلص التدريجى من الاعتماد على الغاز والنفط والفحم الروسى سيتم وفق ما اتفق عليه بين دول الاتحاد بحلول عام ٢٠٢٧ على الأكثر. الطموح الإسرائيلى يأتى هذه المرة عبر مجموعة من المسارات؛ منها الخاص بإنشاء خط أنابيب واحد أو أكثر، عبر اليونان أو تركيا، أو من خلال ضخ الغاز إلى مصر لتسييله ومن ثم شحنه إلى دول أوروبا. تلك الرؤية عبّر عنها وزير الخارجية «يائير لابيد» بعد زيارته الأخيرة إلى أثينا، عندما ذكر أن الحرب فى أوكرانيا ستغير بنية «سوق الطاقة» فى أوروبا والشرق الأوسط، وترى إسرائيل أن لديها القدرة على المشاركة فى تلك البنية الجديدة، ويبدو أن هناك قرارًا اتخذ للمضى فى ذلك بكل ما فى وسعها.

لكن رغم هذا الزخم والاحتشاد الإسرائيلى للأمر، تخطو تل أبيب بحذر خاصة فى المساحات التى تشهد تنافسًا يونانيًا تركيًا حادًا، فكل منهما يخطط كى يكون بوابة دخول الغاز الطبيعى إلى أوروبا، وهذه أمور ستحددها التحالفات الدولية لا شك فى ذلك. فما زال فى ذاكرة إسرائيل القريبة تجربة خط أنابيب «ايست ميد»؛ الذى وضع قبل سنوات على طاولة البحث ما بين إسرائيل وقبرص واليونان، ووصفته تركيا حينها بالمشروع السياسى البحت الذى يفتقد لأى ملامح نجاح تجارى استثمارى، كونه بمثابة تحالف مناهض لتركيا بهدف إجبار أنقرة على تقديم تنازلات. لهذا لم يكن رفض الولايات المتحدة دعم وتمويل مشروع الخط مفاجأة، بل اعتبر منطقيًا نظرًا لتكلفته العالية «٦ مليارات دولار»، واستغراقه ما لا يقل عن ٤ سنوات لإتمام جاهزيته للتشغيل. وبقيت ظلال من التوترات التى نشبت حينها، بين قبرص واليونان من ناحية، وتركيا من جانب آخر، وقت أصرت أن لقبرص الشمالية حقوقًا فى الموارد الموجودة بالمنطقة، التى بدأ تحالف الدول الثلاث عمليات الحفر والاستكشاف فيها لتهيئة البدء فى المشروع. ورغم توقف المضى فى الخطوات حينها، فإن التفاعلات الجديدة أعادت الحياة إلى التفكير فى خط «إيست ميد»، وتقوم حاليًا شركة «بوديسون» فى التقدم بإنجاز المراحل النهائية من المسوحات الجيوفيزيائية لمسار الأنبوب فى مياه كل من إسرائيل وقبرص واليونان، على أمل أن يكون النفور الدبلوماسى من تركيا قد زال، وتكون هناك فرصة مجددًا للبحث عن حلول لإشكالية التمويل الضخم اللازم للمشروع. 

تعتمد إسرائيل إلى حد كبير على «حقل ليفياثان» ليكون المصدر الرئيسى لصادرات الغاز إلى أوروبا، وهو الحقل الذى تقوم شركة «شفرون» الأمريكية العملاقة بتشغيله وتمتلك فيه حصة تقدر بنحو ٤٠٪، مع شركاء آخرين هى شركة «رشيو» للتنقيب التى تمتلك ١٥٪ ومجموعة شركات «دلك» و«آفنر» للتنقيب عن حصة تبلغ ٢٢٪. الحقل وفق التقديرات المعلنة يحتوى على احتياطات للغاز الطبيعى تتجاوز ٦١٠ مليارات متر مكعبة، وقدرت تل أبيب مع مجمل إنتاجها من حقول أخرى أصغر، أن استهلاكها خلال العقود الثلاثة المقبلة ستسمح بتوافر ٦٠٠ مليار متر مكعب للتصدير. وهو رقم قد يسمح لإسرائيل، وفق ما بدأت تتحرك على ضوئه، إلى بحث إمكانية العمل من خلال المسارات الثلاثة معًا، مع مصر وتركيا وكل من قبرص واليونان، فهى ترى القدرة على السير فى هذه المسارات المتوازية، بشرط طمأنة جميع الفرقاء أن العمل مع طرف لن يضر بمصالح أو يهدد التعاون مع الأطراف الأخرى. 

خبراء الطاقة العاملون بتلك المنطقة، يعتبرون ثروة إسرائيل المكتشفة التى دخلت بالفعل حيز التشغيل وتشملها خططها التصديرية، تمثل ما لا يتجاوز ثلث الاحتياطيات المحتملة وفق الدراسات الأولية التى أجريت فى مناطق الاستكشاف. ولهذا بدأت الأصوات تعلو داخل تل أبيب وفى أروقة الشركات الأمريكية الكبرى، أن هناك حاجة ماسة اليوم لبيع حقوق الاكتشافات المستقبلية، لتشجيع المزيد من الاستثمار الدولى فى الاستكشاف من قبل الشركات الخاصة العملاقة، فى الوقت الذى لا توفر إسرائيل سوى تراخيص الاستغلال ودعم التطوير. لكنها لم تقوم حتى الآن بالتنقيب عن الغاز أو بناء الأنابيب، باعتبارهما يحتاجان إلى عملاء استثمار كبار قادرين على تحمل ثمن خطوط الأنابيب التى يمكنها إغراء تمويل عمليات التنقيب. وهى حلقة متكاملة ومرتبطة بالعثور على ما يكفى من الغاز لتحفيز هؤلاء، فى الوقت ذاته الذى يحتاجون ضمانة وجود الجهة التى سيبيعون لها، وتمثلها هنا الدول الأوروبية افتراضًا بعد ما جرى فى تفاعلات المشهد الراهن.

من المتوقع أن يزور وزير الطاقة التركى إسرائيل فى الأسابيع المقبلة، من أجل التباحث حول إمكانية الإحياء النشط لخط الأنابيب الذى يمكنهما فى حال إتمامه، أن يدخلا كبديل قوى للمورد الروسى الذى لن يعود لسابق عهده، مهما كانت نتائج الحرب على أوكرانيا. مشروع الخط الإسرائيلى التركى ومن ثم إلى دول أوروبا، تبلغ تكلفته بحسب الدراسات التى أجريت قبل سنوات ١.٥ مليار دولار، وبذلك يتفوق على الخط المتجه إلى قبرص ثم اليونان بأفضلية السعر، كما سيستغرق بناؤه عامين فقط. وهو فى كل الأحوال يعطى إسرائيل ميزة استراتيجية استثنائية، كونها ستنتقل إلى مستوى المنتجين الكبار القادرين على التداخل فى ملف بهذا القدر من الأهمية والدقة، فالمرشح أن تظل توابع اضطراب أسواق الطاقة ممتدة لسنوات، كما أخبر بها المستشار الألمانى، على الأقل حتى تاريخ ٢٠٢٧ فى حال بدأ العمل على نقل بدائل الغاز الروسى، اعتبارًا من الآن. كما يبدو الجانب الأوروبى جادًا فى إعادة صياغة المعادلات الاستراتيجة الجديدة، وقد بدأ بالفعل تحركات على مستويات عدة من أجل تأمين احتياجاته العاجلة من الطاقة، ومن ثم سيذلل أمام مورد مهم كإسرائيل جميع العقبات والاحتقانات التى ظلت عقبة فى طريق، يجرى تعبيده لوصول الحليف الموثوق والأقرب إلى القلب الأوروبى النابض.