رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ثقافة إجرامية مولدة للعنف

 

 

لن أتحدث عن جريمة محددة، لكن ينبغى أن نعزى أنفسنا كمصريين جميعًا، ونخص بالتعزية إخواننا الأقباط المسيحيين فى مقتل القمص الفقيد أرسانيوس وديد، الذى لقى حتفه بعد حادث إجرامى على شاطئ الإسكندرية، عاصمة الثقافة الإنسانية لقرون عديدة.

هيا بنا نحاول فهم مولدات العنف والكراهية تجاه المختلف دينيًا وفكريًا، خصوصًا مواطنين أصليين يحملون عقيدة مسيحية موروثة من قرون فوق وادى النيل الحبيب، وحوادث متتابعة من فئات ضالة تحمل ثقافة دينية مجرمة، تتناقض مع أبسط مبادئ الثقافة الإنسانية الدينية وغير الدينية، والتى تختلف جذريًا عن ثقافات العصور الوسطى التى تملأها الكراهية والتمييز ضد الآخر المختلف دينيًا أو مذهبيًا.

ولنتساءل معًا: ما أسباب تكرار حوادث الاعتداء على القساوسة والكنائس وأتباع أى فلسفة أو دين مختلف أو حتى أتباع نفس الدين لكنهم ليسوا على المذهب المقبول من وجهة أصحاب الفكر الدينى الإجرامى السائد؟ ونتساءل أيضًا: هل الدين السائد فى مصرنا الحبيبة دين إجرامى عنصرى؟

فنجيب بأن الدين الإسلامى الذى يتبعه غالب المصريين دين كسائر الأديان والفلسفات وليس بدعًا بين أديان الإنسان فى كوكبنا الحبيب، له وجوه جميلة متسامحة حضارية، عبّر عنها كبار رجال الدين المعاصرين الذين يرفضون العنف والعنصرية والإجرام الدينى، كالأستاذ الإمام والشيخ الجليل محمد عبده، ومَن تبعه من رجال الدين الإسلامى الكبار كالشيخ المراغى والشيخ شلتوت والشيخ طنطاوى، ومن يحاول السير على دربهم كشيخ الأزهر الحالى فضيلة الإمام الأكبر أحمد الطيب، وغيره من رجال الدين الرافضين لثقافة الكراهية والعنصرية والعنف السائد فى العصور الوسطى.

ولكن للأسف، فى المقابل يوجد الكثير من المروجين لدين العنصرية والكراهية والبغضاء والعنف، وهم أعلى صوتًا وأكثر انتشارًا من خلال فضائيات بغيضة وجماعات ضالة تمثل وجه التدين القبيح الإجرامى، ونجحت هذه العصابة فى إشاعة تلك الأفكار فى الفضاء العام حتى يتلقفها ويعتنقها كثير من تيارات العنف والكراهية، ليس فى مصر فحسب ولكن فى العالم الإسلامى كله للأسف الشديد.

وتحاول دولتنا المصرية ودول المنطقة غالبها مكافحة ذلك الفكر الإجرامى بتجديد الخطاب الدينى، وتعديل مسار التدين نحو رحابة التسامح والإنسانية، وجعل الدين الموروث دينًا يحمل القيم الإنسانية المشتركة للتعايش والحب والسلام.

لكن للأسف ما زالت تلك المحاولة فى بدايتها، وما زال الفضاء العام مزدحمًا بالنصوص التى تحض على كراهية الآخر وشيطنته، وترى فى الاختلاف الدينى أو ترك الدين السائد جريمةً تستوجب الفتك بالمختلف أو إخضاعه لفكرة واحدة، مَن يعتنق سواها يكون حلال الدم والمال والعرض أو فى أحسن الأحوال ينبغى إذلاله وقهره لإخضاع الجميع بالتسليم لها، وعدم معارضتها وعدم نقدها والخروج عنها.

نجد نصوصًا كثيرة شائعة تشوه المختلف، وتزعم أننا علينا التضييق عليه فى كل شىء حتى فى الطريق، ورفض مساواة المختلف فى الحق فى التعبير والاعتقاد المختلف عن الحظيرة السائدة المنتمية لفكر العصور الوسطى الذى لا يعرف المساواة، ويعتنق ثقافة التمييز المبنى على أسس شيطنة كل مختلف، سواء كان الاختلاف جزئيًا أو كليًا.

لا بد أن نكون صرحاء ونواجه الحقيقة المرة، وهى أن ثقافة العصور الوسطى تسربت إلى منصاتنا التعليمية والتثقيفية والإعلامية، وهى الوقود الرئيسى لكل عمليات العنف والإرهاب بمجتمعنا.. إن أى مواجهة أمنية ضد هؤلاء المجرمين ليست كافية رغم كونها ضرورية بلا ريب، لكنها دون ثورة فكرية ثقافية دينية شاملة وليس مجرد تجديد محدود للخطاب الدينى هى حرث للبحر وجهد مهدر.

ينبغى لنا جميعًا التضافر من أجل مراجعة كل المنصات التى توجه الوعى العام لجعله بريئًا من الفكر الإجرامى الكامن والظاهر، دون تلك الثورة الإنسانية فى الثقافة العامة والفكر الدينى السائد، علينا الانتظار السلبى لمزيد من الحوادث الإجرامية التى تغتال إنسانيتنا وتجعلنا نعيش فى العصور الوسطى بتعصباتها البغيضة ونظمها العنصرية، ودون تلك الثورة الإنسانية بالوعى العام نُحمل أجهزتنا الأمنية ما لا طاقة لها به من إفرازات وتقيحات وتشوهات ثقافة عنصرية تولد المزيد من العنف والكراهية.