رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الاختيار 3.. بين الواقع والخيال «7»

عام الحزن في مصر

أحداث الاتحادية كانت بداية النهاية لحكم الإخوان وأول مسمار فى نعش الجماعة 

ميليشيات الإخوان فى الاتحادية كان هدفها ترهيب الجيش والشرطة وليس حفنة المعتصمين الذين عذبوهم 

إطلاق النار على الصحفيين فى الاتحادية جعل بين كل صحفى مصرى وبين الإخوان ثأرًا شخصيًا

زيارة «الغراب» لمصر من أهم أحداث الحلقة السابعة والتى تكشف عدم وعى الإخوان بطبيعة مصر 

 

أعادت لى الحلقة السابعة من «الاختيار» ذاكرة الحزن.. وهى ذاكرة شعورية.. عاطفية.. تحتفظ بالمشاعر وتسقط الأحداث.. وما أذكره أننى طوال الشهور الأولى من حكم الإخوان كنت قد لجأت لحيلة دفاعية نفسية وهى عدم التفاعل مع الأحداث بجدية.. وضعت غلالة رقيقة بينى وبين الواقع وأخذت أشاهد من بعيد.. وكأنك تغلق صوت جهاز التليفزيون وتكتفى بمتابعة المشاهد على الشاشة.. وهى حيلة ألجأ إليها إذا كنت أرغب فى متابعة الأحداث دون أن أتورط عاطفيًا بما يؤذى مشاعرى.. وأذكر أن هذه المرحلة بدأت مع تولى محمد مرسى واستمرت حتى بدء إحداث الاتحادية فى ديسمبر ٢٠١٢.. حيث داهمنى شعور عنيف بالحزن والخوف على مستقبل مصر، وإن كنت أدرك، بحكم قراءة التاريخ، أن الجيش المصرى ضامن لاستقرار البلاد فى نهاية الأمر.. لقد بدأت أحداث الاتحادية فى يوم الثلاثاء التالى لإعلان مرسى الدستورى.. حيث تمت الدعوة لمظاهرات ضخمة فى اليوم التالى لإعلان مرسى.. وتوجهت المظاهرات لقصر الاتحادية، ورفضت الداخلية والجيش التدخل لفض المظاهرات السلمية.. ورأى قادة المظاهرات أن رسالتهم وصلت.. فدعوا المتظاهرين إلى العودة لبيوتهم.. وهو ما حدث بالفعل.. لكن عددًا قليلًا منهم قرروا الاعتصام أمام الاتحادية.. وهو أمر كان يمكن التعامل معه بشكل عادى.. لكن الإخوان غلبتهم طبيعتهم «الغشيمة» و«العنيفة» و«التكفيرية» فأعلنوا النفير العام، وقرروا استعراض القوة ضد العشرات الذين اعتصموا أمام الاتحادية، وكانت الرسالة موجهة للشرطة وللجيش وليس للمعتصمين الذين تم الاعتداء عليهم وتعذيبهم ثم تسليمهم لنيابة مصر الحديدة التى اتخذ رئيسها قرارًا بإخلاء سبيلهم، ودخل هو والمحامى العام لشرق القاهرة فى مواجهة مع النائب العام الجديد طلعت عبدالله، الذى أراد أن يؤثر على قرارات النيابة لصالح الإخوان.. أثارت مشاهد تعذيب المعتصمين غضب القوى المختلفة والناس العاديين، وأذكر أننى حين اطلعت على الصور فى صالة تحرير جريدة «الصباح» شعرت بانقباض كبير وبحزن شخصى، رغم أننى عودت نفسى على أن أتعامل مع الأخبار بنوع من أنواع الحياد كحيلة نفسية.. توجه عشرات الآلاف إلى الاتحادية كنوع من رد الفعل على فض الاعتصام، ووجدت نفسى أتوجه معهم إلى هناك وأنا أدرك أن ما سيدور فصل من أخطر الفصول فى تاريخ مصر.. وكان الإخوان قد أعلنوا النفير العام وحشدوا أعضاءهم عبر آلاف الأتوبيسات من المحافظات المختلفة، ووقفوا حول قصر الاتحادية وواصلوا الاعتداء على المتظاهرين وعلى القوى السياسية المختلفة، وأذكر أننى بطريق الصدفة حضرت مباحثات جرت بين مجموعة يسارية وبين فرق الردع الإخوانية للإفراج عن ناشطة من الاشتراكيين الثوريين اختطفها الإخوان وبدأوا التحقيق معها، فوسّط أصدقاؤها مجموعة من حزب «مصر القوية» للإفراج عنها.. وقد أفرج عنها وهى تحمل آثار ضرب وتعذيب غير آدميين.. ولا أعرف أى أخبار عن هذه الناشطة الآن، والمدهش أنها من الوارد جدًا أن تكون من الفريق المدافع عن الإخوان الآن.. فالمصالح تتصالح فى نهاية الأمر.. وبرغم أننى كنت موجودًا بدافع مهنى إلا أننى للمرة الأولى أشعر بالحزن والخوف على مستقبل مصر.. فالفوضى كانت تسيطر على شارع الميرغنى والمنطقة المحيطة بالاتحادية.. وهناك كر وفر.. وتبادل للحجارة.. وانصرفت والحزن يسيطر علىّ، وأقول لنفسى إن الوضع من المستحيل أن يستمر هكذا، وفى صباح اليوم التالى عرفت بخبر إصابة الزميل الحسينى أبوضيف وكنت قد تعرفت عليه من خلال الصديقة عزة مصطفى التى رشحته ليشارك فى برنامج تقدمه وأشرف أنا على تحريره.. وأذكر أننى اهتممت بمقابلته بعد أن قالت إن الذى رشحه لها هو الأستاذ الكبير عادل حمودة.. كان الحسينى وقتها مندوبًا لجريدة «الفجر» فى مجلس الوزراء.. وكان يتحدث بلهجة أهل الصعيد ولا يغيرها.. لم يخرج البرنامج للنور، لكن بقى فى ذاكرتى هذا الصحفى الذى لم يرتد قناع أهل المدينة.. وظل محافظًا على لهجته وبراءته.. وقد أثر خبر إصابته فى كل صحفيى مصر وسرت حالة من الحزن العام.. خاصة أنه اتضح أن عنف الإخوان ليس موجهًا ضد «فلول النظام السابق» أو «بلطجية رجال مبارك» كما كانوا يصفون معارضيهم.. بل إن العنف الذى مارسوه طال زميلًا لنا.. لا يملك من حطام الدنيا سوى كلمته.. وقد بقى الحسينى فى المستشفى أسبوعًا كاملًا.. متأثرًا برصاصة فى الرأس أصابته من الجهة التى كانت تقف فيها فرق الردع الإخوانية.. وخرجت جنازته من نقابة الصحفيين، وكانت جنازة حاشدة سار فيها الآلاف.. وسيطر علينا فيها حزن حقيقى وأظن أن كل صحفى فى مصر شعر من وقتها أن لديه ثأرًا شخصيًا مع الإخوان.. وقد سرى ذلك على الجميع بمن فيهم كاتب هذه السطور.. وكانت المشكلة أننى لا أثق فى قدرة القوى السياسية المدنية على هزيمة الإخوان.. حيث كنت أرى أنها لا تعبر عن قوى اجتماعية واقتصادية على الأرض، ولا تحظى بدعم قطاعات شعبية واسعة رغم أهمية بعض قادتها.. ولم يكن لدى أدنى شك أن الجيش المصرى هو المؤسسة الوحيدة القادرة على لجم جنون الإخوان وإيقافهم عن إرهاب المصريين وتخويفهم.. وقد نزلت قوات الجيش بالفعل للفصل بين المتظاهرين وضمان الأمن فى المنطقة التى شهدت الأحداث، وأصدرت القوات المسلحة بيانًا تحذر فيه من عواقب الفوضى وتدعو للحوار وضبط النفس.. والحقيقة أن الإخوان بقيادة خيرت الشاطر واصلوا السير فى طريق الهلاك.. فقد سعى الشاطر إلى توسيع التحالف بين الإخوان وبين التنظيمات الإرهابية التى كان الإخوان يتبرأون منها وكان الهدف هو الاستعانة بها فى أعمال الإرهاب الواضحة والقول بأن أعضاءها ليسوا تابعين للإخوان إذا لزم الأمر.. فضلًا عن خبرة أعضائها فى استخدام السلاح والقدرة النفسية على العنف والقتل باسم الدين.. وقيل وقتها إن الإخوان أنفقوا ملايين كثيرة لشراء ولاء أعضاء الجماعة الإسلامية السابقين الذين كانوا قد خرجوا من السجون عقب مبادرة وقف العنف ووفرت لهم الدولة مشاريع تجارية بسيطة ليعتاشوا منها.. وكان من الشخصيات التى لعبت دورًا مريبًا فى هذه الفترة المحامى عصام سلطان، وهو واحد من جيل الثمانينيات فى جماعة الإخوان.. كان قائدًا طلابيًا مهمًا وعلى صلة نسب بمأمون الهضيبى مرشد الجماعة.. ولكنه فجأة خرج مع المجموعة التى عرفت باسم مجموعة الوسط.. وأخذ ينسج علاقات صداقة مع كل الصحفيين المعاديين للإخوان.. ويبادر بالاتصال بهم وإمدادهم بالمعلومات عن الجماعة وخلافات أعضائها.. وكان يبدو شديد العداء للجماعة.. لكن ما إن وصل الإخوان للحكم حتى أصبح من أشد مؤيديهم، ويقال إنه كان ملكيًا أكثر من الملك.. وإخوانيًا أكثر من الإخوان.. وكانت كل نصائحه لهم فى اتجاه الصدام ورفض الحوار.. ويقال إنه لعب دورًا فى إقناع محمد مرسى برفض دعوة القوات المسلحة للحوار بعد أن كان قد وافق عليها.. بالإضافة لأدوار أخرى لعبها فى هذا الاتجاه.. وهو نموذج مثير وغريب لإخوانى ذى طموح.. لعب دورًا غامضًا قبل يناير وبعد يناير.. فلا أحد يعرف هل هو إخوانى دوره اختراق النخبة والصحفيين؟ أم هو انتهازى ظن أن الإخوان سيبقون فى الحكم فسارع للعودة إلى صفوفهم؟ أم هو باحث عن المصلحة المادية لدى الدولة التى كانت تمول الإخوان وحلفاءهم؟.. ورغم سخونة الجزء الخاص بأحداث الاتحادية إلا أننى توقفت أمام الجزء الخاص بمتابعة المخابرات العامة المصرية لشخص أجنبى دخل إلى مصر، ويحمل فى المسلسل اسمًا كوديًا هو «الغراب»، وهو فى الغالب رمز لمسئول أمنى فى دولة إسلامية غير عربية جاء لزيارة مصر لينقل خبرته للإخوان فى تأسيس ميليشيات مسلحة يعتبرونه هم بمثابة ميليشيا ثورية.. وهو دليل آخر على غباء الإخوان وعدم وعيهم بحقائق التاريخ والجغرافيا، وهو أمر شرحه يطول ونتابعه فى الغد بإذن الله.