رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

رمضان كشهر للوعى والبهجة

الإنسان دومًا ما يُعيد إنتاج النظم التى يرثها بما يناسبه ويوافق وعيه بذاته وتاريخه وانتماءه الحضارى.

فتفد على مصرنا الحبيبة يوميًا قوميات ولغات وأديان وفلسفات لا تلبث إلا يسيرًا حتى نصبغها بتجاربنا الحضارية ونلونها بوعينا التاريخى. 

فقد هلّ هلال شهر رمضان الكريم الذى يمثل أحد أركان الإسلام، فهو شهر الصيام والقرآن الذى هو أصل الإسلام كله.

والصيام ليس ركنًا أساسيًا فى الإسلام فقط بل لا يكاد دين يخلو من طقس الصيام بمختلف أنواعه أو بعضها دون البعض، فبعض صيام اليهود يشبه الصيام الذى جاء به الإسلام، بينما نجد الصيام المسيحى مختلفًا نوعًا ويشبه بعض أنواع صيام أديان شرق آسيا، وقديمًا كل رقعة كان لها شكل من أشكال الصيام.

فالصيام المعروف هو الامتناع لوقت محدد عن الأكل والشرب، وأحيانًا يضاف له الامتناع عن مطلق الكلام، وأحيانًا يشمل الصيام الامتناع عن الممارسة الجنسية وغير ذلك مما تختلف فيه النظم التى ابتكرها سائر الأديان شرقًا وغربًا.

ونجد اختلافات فى طقوس الصيام وحدوده فى الأكل والشرب والجنس والكلام ونجد أيضًا تنوعات فى وقت الصيام ومناسبته مع شهر معين قمرى أو شمسى، حسب المكان والزمان الذى ولد فيه هذا الدين أو ذاك المذهب الذى يفرض أو يحبذ شعيرة الصيام لأتباعه ومقلديه ويربطها بالشمس والقمر أو كليهما.

ورغم كل تلك الخلافات الدينية، فإن الصيام الدينى منه خصوصًا يهدف إلى تقريب الإنسان من شركائه فى المعتقد الدينى المعين وإشعارهم بأنهم مشتركون فى فعل أو ترك واحد فى وقت واحد فيه تخضع الجماعة الدينية المنتمية لدين ما لنفس الطقوس وهو تمرين على طاعة رب هذا الدين، ومن يمثله من البشر فى كوكب الأرض، وهو كذلك تدريب للشخص المتدين بدين ما أو مذهب ما بالترفع عن شهواته وتركها من أجل الحصول على رضا الإله سبحانه وتعالى. 

ورغم أن الصيام فى جوهره يدرب الإنسان على الزهد فى ملذات الحياة التى نعيشها من أجل حياة موعودة أفضل نحصل عليها بعد الموت إن شاء الله، فإن الإنسان لا يستطيع إلا أن يجمل ويزين تلك الشعيرة التى هدفها ترك بعض المتع بطقوس وعادات فيها من البهجة والمتعة أضعاف المتع المتروكة، فيزيد الإنسان من استهلاك الطعام ويرتفع إلى الحد الأعلى الالتزام بتزويق مائدة الطعام وتنويعها فتمد الموائد العامرة بكل ما لذ وطاب ويجتمع حولها الأهل والأولاد والأحباب.

ويزين كثير من المتدينين أو معتنقى هذا الدين أو ذاك بيوتهم وأحياءهم بمختلف أنواع الزينات المبهجة، ويشترك فى ذلك الجنسان من كبير وصغير فى جو احتفالى بهيج.

وتضيف الحضارات العريقة لشعيرة الصيام جماليات فنية وطربية فتكثر مجالس الغناء والإنشاد الدينى وغير الدينى، ويتفنن الناس فى تجويد وتحسين تلاوة القرآن الكريم، ويسعى الناس خلف كل قارئ بديع الصوت وشجى الإلقاء ويلتفون حوله مستطربين خاشعين مستمتعين. 

وتنتشر كذلك مختلف وسائل التسلية الجميلة المفيدة النافعة التى أبدعها العقل الإنسانى كدورات رياضية للشباب يلعبون فيها، ويقوون أجسامهم ومجالس وبرامج للأحاجى والفوازير وبرامج حوارية هزلية وجدية، أو تمزج بين الجد والهزل.

وتقوم الأعمال الدرامية المتميزة بدور بالغ فى استفزاز الوعى للتفكير الموضوعى العقلانى فى مشكلات المجتمع، لكنه ليس تفكيرًا جافًا بل هو مختلط بالتسلية والترويح وتختلف نسبة التفكير للترفيه من عمل لآخر، ما يعطينا كمتلقين وجبات درامية متنوعة نتناول منها ما نشاء وندع.

فكل ما سبق يُبين لنا أن ظاهرة شهر رمضان الكريم ليست ظاهرة جامدة جافة ولكنها تغمرها الثقافة المصرية المبدعة السباقة للإبداع، فمن مصر خرجت دعوة التوحيد الإخناتونية الأولى فى التاريخ، وعندنا ولد أول دين منظم فى التاريخ، وصنعنا أول طقوس وشعائر تمزج بين الخشوع والحب لساكن السماء والأرض. 

ولكنه حتى يتحقق المراد من الصيام، علينا أن نتأمل ذاتنا ونتفكر فى وجودنا كما تحضنا على ذلك التجارب الدينية المتتالية، وهذا هو حديثنا المقبل.