رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المسرح والحرية

 

حين نتحدث عن المسرح فنحن بالضرورة نتحدث عن الحرية والسلطة فى آنٍ واحد.. نتحدث عن مساحة حرة للتحليق ومحددات للمنع.. حيث العرض المسرحى ساحة جدل، وحيث تتأسس عملية إنتاج المعنى فى المسرح عبر إزاحة مستويات من السلطة «سلطة اللغة- الدين- الفضيلة- السلطة الكامنة فى العلاقات البينية بين المؤلف والمخرج والسينوغراف والمؤدين والجمهور»، التى تنتهى بأن بذرة النص الواحد تنتج آلاف النصوص.

ولسنا هنا بالطبع بصدد تعريف السلطة/ الحرية فلسفيًا، فما يعنينا هنا حرية الإبداع التى تتعهد الدولة بحمايتها فى دستورها: كيف ولماذا تراجعت حرية الإبداع وتفاقمت آليات المنع؟ وكيف استطاع المسرح مراوغتها؟ وكيف تراوح بين الإفلات منها والوقوع فى فخها؟

بناء مصدات الأمواج 

كانت لحيوية المسرح المصرى وإصراره بجميع روافده، خاصة المسرح الجامعى والمسرح المستقل، على تحدى السائد تأثير كبير دفع الأجهزة الرقابية لاستحداث إجراءات من شأنها محاصرة السيل الجارف الذى يتحدى قيمها التقليدية المحافظة التى لا تقبل المساس بها، وكانت مؤسسة الرقابة هى إحدى الأدوات التى لجأت لها لحماية المبدعين من أنفسهم كما يظنون، دون أن ينتبهوا للدور الاجتماعى الداعم الذى يلعبه المسرح فى التحول/ التغير الاجتماعى الإيجابى وبناء وعى المواطن، وقد قبل المسرح المصرى ذلك التحدى منذ سنوات، سواء علنًا بمواصلة إنتاج العروض المفارقة جماليًا، أو عبر التقنّع والتخفّى، لمواجهة الآليات التى استحدثتها الرقابة لتطبق قبضتها على المنتج المسرحى، والتى كان أحدثها تعقيد إجراءات التصاريح، وفرض رسوم إضافية على شباب المبدعين الذين ينتجون مسرحًا بالاكتتاب فيما بينهم وبالتمويل الذاتى، أضف إلى ذلك زيادة المحاذير الرقابية.

آليات التخفى 

كان لتلك الإجراءات أثر بالغ فى إضعاف المسرح المصرى، خاصة المسرح الجامعى والمستقل، ومسخه وإفقاده إحدى أهم مزاياه، بوقوعه تحت طائلة الرقابة، لكن لأن اللعبة تقتضى المناورة من الجانبين لجأ المسرحيون لبعض آليات التخفى على النحو التالى: 

• أصبحت العروض فى معظمها تحاكى النسق الجمالى الكلاسيكى. 

• أصبح المحتوى الدرامى، فى معظمه، حال كون الكاتب مصريًا، يعتمد على الرمزية، واستلهام نصوص من أحداث غير واقعية وعوالم خيالية تعتمد على أساطير أو حكايات خيالية أو مستلهمة من التاريخ البعيد بغرض الإسقاط على الواقع. 

• أصبح اللجوء لنصوص الكُتّاب الغرب أمرًا شائعًا، حيث يسمح بتوفير غطاء موضوعى مفاده أن ما نعرضه الآن يحدث هناك ولا علاقة له بما يحدث هنا.

وهكذا فقدنا المسرح الطازج المفارق جماليًا، القادر على الاحتجاج والصراخ والسخرية، القادر على إبكائنا وإضحاكنا فى آنٍ واحد، أو لنتحرى الدقة صار نادرًا أن نصادف مسرحًا يدهشنا ويوقظ حواسنا ويحفزنا على التفكير والمراجعة والنقد الذاتى. 

إلى أين سنذهب بالمسرح بعد ذلك؟ سنشاهد عروضًا بلاستيكية جميلة، وستحظى بإعجاب النقاد والجمهور وفقًا لـ«مسطرة» المعايير الجمالية التقليدية، شريطة ألا تحتوى نقدًا عميقًا يهز أركان الأنظمة المعرفية والاجتماعية الراسخة خاصة فيما يتعلق بالدين ووضع المرأة والسياسة، سيتخفى المسرح ويراوغ لكنه سيبقى وفى اللحظة المناسبة يعاود حضوره ويفاجئنا بالمسرح الذى نتمناه.