رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«معزوفة مُقلقلة».. كتاب يحلل أعطاب المجتمعات في ظل التحول الرقمي

الفيلسوف الإيطالي
الفيلسوف الإيطالي فرانكو بيفو بيراردي

كانت الصيحة التي أطلقها الفيلسوف الفرنسي جان فرانسوا ليوتار في الستينيات من القرن الماضي من أوائل النُذُر المُتفكّرة بمآلات توجهات طوباوية سطرت تاريخ عصر التنوير في أوروبا، دعا ليوتار إلى شن حرب على الشمولية والكف عن الحنين إلى كيان كلي بعد أن  شهد القرنان التاسع عشر والعشرون أقصى قدر من الرعب جراء ذلك. 

النقد الذي وجهه فلاسفة ما بعد الحداثة في العقود الأخيرة من القرن العشرين كان تعبيرًا عن وعي بغيوم كثيفة تحجب آفاق رؤية متفائلة أو حتى واضحة للمستقبل. كتب نقاد ما بعد الحداثة عن اليوتوبيا التي تحولت إلى نقيضها والآفاق الرحبة التي صارت نفقَا مظلمًا جراء التحولات السريعة التي شهدتها المجتمعات الرأسمالية.

غلاف كتاب "معزوفة مقلقلة"

في كتاب "معزوفة مقلقلة: السميورأسمالية وأمراض جيل ما بعد ألفا"، الصادر حديثًا بترجمة أحمد حسان عن "دار هن للنشر والتوزيع"، يمسك الفيلسوف الإيطالي فرانكو بيفو بيراردي أطراف الخيط الذي حررّه فلاسفة ما بعد الحداثة ليُقدِّم توصيفًا للتحولات التي شهدتها الرأسمالية على مدار قرون بدءًا من الهيكلة ما بعد الصناعية وصولًا إلى صيغتها الحالية ممثلة في  نشوء طبقة العمل الذهني الافتراضية غير القابلة للتنظيم في أعقاب التحولات الرقمية. 

يطوف بيراردي بين الماضي والحاضر مرتكزًا على مجالات متنوعة من التحليل الثقافي الاجتماعي إلى علم المرض النفسي وسوسيولجيا الاتصال إلى النظرية السياسية، ليعرض تحليله للواقع المعلوماتي الراهن وآثاره النفسية والاجتماعية. 

نهاية العصر الحديث   

 شهدت ستينيات وسبعينيات القرن العشرين بداية الشعور بانسداد الأفق والحدس بنهاية العصر الحديث بعدما أثبتت التخيلات الطوباوية التي أججتها أيدولوجيات القرن إخفاقها وعجزها عن التحقق. يسرد المؤلف جملة من الأحداث التي يعتبرها نُذرا أسهمت في تجذر تلك الرؤى المتشائمة إزاء المستقبل. 

كان العالم أجمع خلال تلك الفترة على موعد مع اشتعال طاقة من العنف غير محدودة؛ في إيطاليا بدأت حملات دموية للألوية الحمراء فيما أسمته "الكفاح المسلح" ضد رموز النظام السياسي، وفي اليابان انفجرت موجة من الانتحارات الجماعية للشباب عام 1977،  فيما أعلنت أوروبا العبور إلى عالم ما بعد الحداثة عبر مؤلفات فلاسفة مثل بودريار وجواتاري ودولوز وفيريليو. يُعبر المؤلف عن تلك الحالة بقوله: "في عام 1977 اتخذ انهيار العقل الغربي مسارًا تسلليًا خفيًا وعرضيّا، لكنه يأخذ عند عتبة الألفية إيقاع هاوية كارثة لم يعد من الممكن احتواؤها".

تحولات أخرى شهدتها الفترة المذكورة، في العام ذاته 1977 أنشأ ستيف وزنياك وستيف جوبيز العلامة التجارية آبل وصنعا أدوات لنشر تكنولوجيا المعلومات، فيما بدأت صيحات النذير تتعالى إزاء ما يعنيه جعله المجتمع معلوماتيًا على المستويات السياسية والاجتماعية والثقافية. 

يقول المؤلف: في الحقبة الحديثة جرى تخيُل المستقبل بفضل استعارات التقدم، استلهم البحث العلمي والتنوير الفكرة وتخيّلت الأيدولوجيات الماركسية الثورية المستقبل على أساس غائي، من الحل الجدلي للتناقضات الراهنة سيوُلد شكل اجتماعي متحرر من الفقر والحرب، وخلال القسم الأخير من القرن العشرين تحللت هذه الافتراضات الفلسفية واختفت فكرة نموذج تقدمي للمستقبل، تقدّمت المعرفة لكنها عاجزة عن إخماد المعاناة والتشاؤم والحزن.

الإطار الجديد للرأسمالية 

ثمة تحولات على المستويين الاجتماعي والإنتاجي في العقود الأخيرة نتجت عن التحول من إعادة الهيكلة ما بعد الصناعية إلى نشوء طبقة العمل الذهني الافتراضية في المجتمعات المعلوماتية. ففي حقبة ماضية، كان للزمن اتساقٌ خطي أسفر عن استقرار الحياة في أدوار اجتماعية مُحددة بشكل كبير، ولكن مع خضوع الاقتصاد لإعادة هيكلة دائمة واعتماده على المدى القصير، لم تعد هناك مسارات محددة، وافتقد الناس العلاقات الإنسانية المستقرة والأهداف بعيدة المدى. 

بدأت الحداثة بوعي بالإنسان كمشروع ومصير يخلق ذاته، وفي الوقت الراهن، فإن الحرية الإنسانية تلك باتت تحت مقصلة التشيؤ في ظل تكنولوجيا رقمية حددت ملامح قوتها وتميزها بوضع كلمة النهاية أمام الحرية الإنسانية، ففي عصر التحول الرقمي، تولت التقنية السيطرة على الذات الاجتماعية، وعلى صعيد الإنتاج، لم يعد رأس المال يجند أناسًا وانتفت الحاجة لوجود شخص لثماني ساعات يوميا بصورة غير محدودة، ولجأ رأس المال في المقابل لشراء حزم من الزمن منفصلة عن حامليها القابلين للتبدل. 

يُعلّق المؤلف على تلك الحالة بقوله: "خلال القرنين الماضيين كانت السيطرة الكوكبية هي اليوتوبيا، التقنية العامة للمجتمع الرأسمالي والثقافة الحديثة، والآن مضى زمن السيطرة الكوكبية، نحن اليوم خارج هذا الإطار تماما، الإطار الجديد للرأسمالية هو الهلع الكوكبي". 

يستشكل المؤلف مفهوم الليبرالية الذي كان مؤسسًا للنظام الرأسمالي في أطواره المختلفة وصولًا إلى المرحلة النيوليبرالية للرأسمالية؛ فبينما تأسست أيدولوجيته على مفهوم الحرية، فإنها لم تكن سوى حرية رأس المال التي تتحكم في حرية الأفراد وتستعبدهم مقابل الدوران في فلك المنافسة بلا حدود ما يجعل البشر مستعبدين في خدمة رأس المال.  

فبعد أن صار الاستقلال الذاتي للطبقة العاملة مُدمجًا في التقنية، فرضت السميورأسمالية، التي هي رأسمالية مؤسسة على العمل اللامادي واستغلال الدائرة المعلوماتية، نفسها كتراكم لسيرورات آلية لم تعد قابلة للسيطرة أو المعارضة، وأضحت الرأسمالية نسقًا من الآليات التكنو اقتصادية لا يمكن تجنُبها. 

إخضاع المعرفة

يحدد المؤلف الحرب العالمية الثانية كتاريخ بداية لإخضاع المعرفة لسُلطة المال وتحويلها إلى أداة للسلطة، فالقصف الذري على هيروشيما لم يكن سوى نتاج إقناع الحكومة الأمريكية لمجموعة من العلماء بالاستسلام لابتزازها وإخضاع المعرفة لسيطرة الآليات التكنو اقتصادية، ومنذ ذلك التاريخ تُجبر المعرفة على العمل في ظروف تبعية مُطلقة لرأس المال. 

أسهم التطور التكنولوجي في زيادة إنتاجية العمل، لكنه في الآن ذاته أدى إلى مزيد من إخضاع البشر للعمل المأجور والمرض النفسي والتعاسة. أنتجت النيوليبرالية سلطتها الاحتكارية وأضحى العمال الإدراكيون الذين نشأوا في ظروف الطفرة التكنولوجية ضحايا مهمشين لا سيما بعد تحالف المجموعات الاحتكارية في دورة اقتصاد النت مع المجموعة السائدة من الاقتصاد القديم.

الزمن السيبراني والهشاشة النفسية

أدى تسارع تبادل المعلومات الذي تتيحه الشبكة الرقمية جملة من الأمراض النفسية والاجتماعية يستعرضها الفيلسوف الإيطالي في كتابه، فالسرعة التي هي سمة رئيسة للفضاء السيبراني ينتج عنها عدد غير محدود من المعلومات ومن المثيرات والمحفزات التي تفوق قدرة أي إنسان على استيعابها والتعامل معها، ومن ثم تتعاظم الفجوة بين متطلبات الفضاء السيبراني والزمن الممكن اجتماعيًا للانتباه وهو ما يعتبره الكاتب "لُب الأزمة الاقتصادية وكذلك لب الأزمات الذهنية والسياسية التي نحيا خلالها الآن".

نتج عن تسارع تبادل المعلومات وكتلة المعلومات المتزايدة باضطراد التي يتعرض لها الأفراد عبر حواسيبهم وهواتفهم المحمولة وشاشات التلفزيون تأثيرات مرضية على العقل الفردي والجمعي جراء عجز الأفراد عن معالجة تلك الكتلة الهائلة التي تفوق قدرة أذهانهم على الانتباه، لا سيما وأنه لا غنى عن إدراك وتقييم ومعالجة كل هذه المعلومات في إطار المنافسة غير المحدودة التي هي سمة العصر.

بات إنسان العصر الراهن محاصرًا باستمرار كي يظل فاعلًا في حلبة المنافسة، في الوقت الذي يتبدى فيه عجزه باستمرار عن ملاحقة تلك السرعة الهائلة، وهو ما نجم عنه انحسار الوقت المخصص للانتباه والحب والمتعة والتعاطف، يوضح المؤلف ذلك بقوله: "ينمو الفضاء السيبراني بصورة غير محدودة لكن الزمن العقلي ليس لا متناهيًا، يثير تسارع الخبرة وعيًا منخفضًا بالمثيرـ تصبح الخبرة بالآخر مبتذلة؛ نملك فضولا ودهشة أقل ومزيدا من التوتر والعدوانية والقلق والخوف". 

التوحد وعسر القراءة ومتلازمة الهلع والاضطراب الوجداني هي جملة من الأمراض التي نجمت عن تسارع دوران المعلومات، ومن جهة أخرى صار النشاط العقلي أكثر انضغاطًا في الحاضر بعد أن قل الزمن المتاح للتذكُر وهو ما يعتبره الكاتب مؤديًا إلى اختزال عمق الذاكرة واختفاء إدراك الماضي التاريخي. 

يرى الكاتب أن أساس المرض اليوم لم يعد الإخفاء بل فرط الرؤية، إفراط في انفجار الدائرة المعلوماتية وإجهاد المثيرات العصبية المعلوماتية. فبينما كان المرض الوبائي السائد للحداثة هو العصاب الناتج عن القمع، فالأمراض المنتشرة اليوم تبدي علامات الذهان والهلع، ومع الاستثارة المفرطة للانتباه تقل القدرة على التفسير النقدي والتتابعي لكلام الآخر الذي يفشل في أن يكون مفهومًا.