رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محنتنا مع الماضي

جريدة الدستور

كان يردد بصوت متهجد متوجس وهو في الشرفة: "كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ" وقال " كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ"؛ ولم يكن يدري لما يفعل ذلك!

الأول: مشهد مخيف:

أعيش منذ أسبوع بمنطقة بعيدة في شبه عزلة، في منزل نائي كانه كهف نُحت في صخرة، بمنأى عن ضجيج الأحداث وكثير الأحاديث، لا يرافقني في ذلك إلا تسللي أحيانا إلى الفيس؛ فجأة وأنا جالس ليلا على كرسي بجانب النافذة، أتأمل نُخيلة- تصارعها ريح، بسعفها عابثة، فجأة إذ بي ألاحظ ظلا لكائن، يتحرك بين أرفف الكتب- في لون داكن، بدا وكأنه ــ بسبب ضياء الحجرة الخافت ــ ظل لأسد صغير قد أفزعني، خشيت حينئذ من أن يزأر فيروعني، ظل إلى الخروج من المنزل دفعني. ما زالت النُخيلة تتوسل إلى الريح أن تهدأ ولو للحظة، فالجزع ضعيف - كان قويا فتيا ذات مرة..، الريح أتت على كل النخيل، ما بقي منها من باقية إلا "أعجاز نخل خاوية "، الريح تزأر فتشتد وتستعر، تأتي على كل شيء ولا تذر، لتجعل حتى البشر كـ "أعجاز نخل منقعر"-- ضياء خافت يسقط من عمود إنارة، يبعث بأمل وكأنه يتحدث بإشارة.

الثاني: مشهد ساخر:

دلفت إلى المنزل وقلت في نفسي: ربما توهمت أو لوهن فيّ تخيلت، لم يكن أسدا ربما جرذا او فأرا كان يتريض بين أعمال الغابرين من عظماء المسلمين (المدينة الفاضلة للفارابي، والنجاة لابن سينا، والمنقذ من الضلال والتهافت وتهافت التهافت وفصوص الحكم والبصريات لابن الهيثم...الخ !

أحضرت ورقة سميكة وافرغت عليها من أنبوبة صمغ الفئران، واضعا قطعة جبن مسمومة لهذا الكائن الجبان. وددت أن أضع له قطعة حلوى، لأحتفي به في عشائه الأخير، دار في خلدي: ما الذي اراده من كتبي، هل أراد أن يقرأ ما فعله السابقون- السلف المعظمون؟ تبسمت حتى بدت نواجذي!.

الثالث: مشهد تأمل:

جلست ساعة خيفة أتحسس جمجمتي، أحسست أن حجمها يصغر، خواء هي وخاوية، بل جسدي أيضا يتضاءل وينقعر، تصبب عرقا واستعر، حينئذ حدثني هاجس قائلا: "يامسكين لست كأسد حطمت أسوار سجن الجهالة مسرعا نحو النور، بل كفأر جبان ملئت نفسة ذل وتحقير" سألت نفسي: أسد كان أم فار؟

فجأة طرق طارق قي هذه الساعة المتأخرة -كان المكوجي، كنت قد أرسلت إليه بدلة ليقوم بغسلها وكيها ؛ جاء ليعتذر حاملا بين يديه البدلة وقد ضاع لونها انكمشت واصبحت لا تصلح حتى لطفل صغير: ياباشا آسف الواد اللي شغال عندي هو اللي عمل كده، حط مادة كاوية بدل مسحوق الغسيل--- واد جاهل بعيد عنك،العلم نوربرضه، (قلت في نفسي وبعيد عني ليه؟)، أردفف المكوجي قائلا: واد ابن كـ ـلـ بـ "فأر"، تخيلت أنه قد علم بمشكلتي مع الفأر، تبينت أنه يقصد "فقر"، بالطبع نطق ذلك باللهجة المصرية .

الرابع: مشهد النهاية والرجاء:

قبيل نومي إذ بي أسمع صوت صرير، لقد وقع في الكمين الذي أعددته له، هرعت لاستمتع بهذا المشهد، كان مكبلا بالصمغ، يحاول التفلت منه، أنى له هذا ؟كان صغيرا ضحلا ضئيلا، وقبيل أن أفرغ على رأسه بقية أنبوبة الصمغ لأكمل عملية القتل، تحسست رأسي، حجمها تضائل لتقارب حجم رأس الفار، نظرت في عينيه، نظر في عيني، بدا وكأنه يقول " أنت أنا وأنا أنت، الأسد انكمش إلى فأر، كما انكمشت أنت وبذلتك، وكما أصبحت أجيال الأمة كأعجاز نخل خاوية"؛أفرغت الأنبوبة كاملة على رأسه، ليتختفي تماما حتى لا يذكرني بحالي.

نظرت من النافذة إلى أعجاز النخل المنقعر، ما زالت النخيلة تقاوم الريح، بدت لي كأنها مثل الجيل الجديد، فهل سيقاوم، حتى لا يصبح فأرا ذليلا مستذلا، هل ستغريه قطعة جبن عطنه؟ أم سيفعل صنيع أجداده لتكون له النجاة ويبني المدينة الفاضلة؟ ليكونوا بمنأى عن الفقر، بعيدا عن الجهل تذكرالشيخ الفأر الذي قتله؛ تساءل: هل كان سبب تواجده بين الكتب لأنه كان يريد أن يتذكر تاريخا غابر؛ ولماذا تخيله في صورة أسد؟ تبسّم بمرارة وقال في نفسه: "أنى لي الذكرى، فأنا القاتل والمقتولِ!