رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الكتابةُ والمرآةُ

جريدة الدستور

بدأ الإنسانُ إشارةً ثمّ صوتًا ثمّ حرفًا حتى جمع الحرفَ في كتاب، فالكتاب هو الكاتبُ نفسُه بلون مكانه، وعطر زمانه، وكل كتابٍ بين أيدينا هو جسدٌ يتحدثُ عن روحه، ومن العبث أن نترك أجسادنا دون روح بمعناها، من هنا يحاول الكاتب أن يضع روحه بين يدي قارئه تحدثُه ويحادثُها، وهو حريصٌ على أن يُقدّم نفسَه بصورتها الحقيقية دون زيف.

سنّ من قبلَنا سُنّة جمع الكتابات المتفرقة في كتاب واحد، وخيرُ دليل على هذا الأمر ما فعله عميدُ الأدب العربي طه حُسين حين جمع ما كان يكتبه من مقالات تحت عنوان حديث الأربعاء بكتاب يحمل نفس العنوان، وجاء غيرُ واحد من كتّاب مصر الحبيبة وفعل ما فعله طه حسين ومنهم المازني وأحمد أمين وغيرهما الكثير، وها أنا بين أيديكم بكتابي الذي جمعت بين دفتيه ما كتبته في مراحل سياسية واجتماعية واقتصادية مختلفة، ليبوح عني إليكم بما أحلمه من زهو عربي يعانق أرواحكم. 

سُحب متراكمة عنوان كتابي، وقد حرصتُ على أن تحمل كلُّ سحابة مطرَها، وقد تختلفُ السحبُ بالشكل واللون والحجم لكنها جميعَها تحمل ماءً وخيرًا إن أحسنّا توظيف الماء لنماء زرعنا، وقد سكنتُ كلَّ السحب باختلافها، وكنتُ مطرَها، فأنا ماؤها.

الكاتب هو صورةُ حرفه ومعنى كلمته، وفي هذا الكتاب كما يلمس القارئ تنوّعت المواضيع من السياسية إلى الاجتماعية إلى الإنسانية، ومن الذاتية إلى العامة لكنها جميعُها تمثّلُني بإحساسي إبداعًا، وبسلوكي إنسانًا، وكم يسرُّني أن تروني بين الكلمات أحدثُكم، وتحادثوني.

حين كانت الحياةُ أقلَّ اتساعًا، والمعرفةُ أقلَّ انتشارًا كان الدارسون يقولون إن المبدعَ ابنُ بيئته، واليوم نستطيعُ القولَ إن المبدع ابنُ عالمِه الكوني الواسع بكل تفاصيله الحياتية والعلمية والمعرفية، والمبدعُ اليومَ متعدّدُ الثقافات، واللغات، ومع ذلك فهو مُحافظٌ على خصوصيته، وطابِعِه المميز، وقد حرصتُ على ترجمة هذه المفهوم للمبدع في عصرنا الحاضر من خلال تنوّع المواضيع، وتنوّع المواد المحكي عنها بجغرافيات متعددة، وهذا الأمر ساعدني على أن أتحدث عن ما يجري في مصر أو سوريا، أو أوروبا لأن المعلومة بالصوت والصورة بين يدي، ومن السهل الحصول عليها، وما عليّ سوى أن أعبّرَ عنها بما امتلكتُه من أدوات إبداعية خاصة بي، هي عنواني في الكتابة.

 في متن الكتاب كما أشرت ما هو إنساني، وما هو سياسي واقتصادي، وقد امتلكتُ ثقافةً خاصةً بي تميلُ إلى تتبّعِ القيم الإنسانية على حساب تتبع الشخصية البشرية، لأن القيمَ الإنسانية ثابتة في اتفاق الناس عليها مثلُ العدلِ والظلم، والخير والشرِّ، والحبِّ والكُرهِ، والإيمانِ والكُفر، والصدق والكذب، كلُّ هذه القيمِ وغيرِها هي صورٌ من صورِ السلوك البشري، نستطيعُ الحُكمَ على الإنسان من خلال سلوكه المرتبط بقيمة إيجابية أو سلبية، والإنسان بشكل عام لا ثبات عنده في السلوك.

وكما يقولون في المثل الشعبي المصري " اللي بيمشي على رجليه تحلفش عليه " فهو قابل للانحراف أو الاعتدال، والميلُ إلى الاعتدال والصلاح نجدُه عند الكاتب المصري المشهور مصطفى محمود الذي كان شيوعيًا، وغيرُ الكثير في هذا الوطن العربي الكبير.

قد وجدتُ الاصطفاف إلى جانب القمة أفضلَ من الوقوف إلى جانب الشخصية البشرية مهما كان منصبها السياسي أو الديني أو الاقتصادي إلاّ بعد موتها، فأنا في سُحبي لم أحمل سوى مطري، فلم أقف مع زعيم عربي مدافعًا أو مهاجمًا، بل أقفُ مع القيمة الإنسانية التي يمثّلها في ذات الزمن الذي أكتبُ فيه عنه، وهذا الأمر سهّل لي الكثير من الحركة بين الكلمات فلم أتعثر يومًا برأي سياسي قد لا يُعجب قارئًا عربيًا في موقع لا أعرفُه، فالمصر واليمني والخليجي والسوري يقرؤون ما أكتب دون الهجوم عليّ شخصيًا لأنني أدافعُ أو أهاجمُ قيمةً وليسَ شخصًا.

وهذا ما شجّعني على الحضور إلى مصر العربية لأكون بينكم كواحد منكم أتحدثُ بنبض الإنسان فينا، ولن أكون صدى مسئولٍ مهما ارتفع في منصبه مثلي، مثل أي مواطن عربي، يحلم بلقاء مصر بزهور إنسانها، وبكامل تاريخها، وبحضارتها الإنسانية الشهادة على عظمة الإنسان، إنني أعانق تاريخها بكم، أعانق حضارة، أعانق فيكم الإنسان العربي الحر، أعانق فيكم نفسي التي جاءت إليكم لتملأ العزم من كنانتها وتعود محملة بالحلم والوعد إلى وطن الفتية الذين آمنوا بربهم، الأردن وطن الحشد والرباط.

*مفكر أردني